مع خصخصة الشأن الديني، وخروجه من إطار مؤسساته، بدأت عمليات احتكار الحديث باسم الدين من قِبل أولئك الذين جاءوا من خارج مؤسسات الدين.
في لحظة تاريخية فارقة؛ انهارت فيها الأحلام العربية في النهضة والتقدم، وشق طريق كبير بين الأمم؛ وحلت محلها كوابيس ما بعد الهزيمة، وتراجع الحلم إلى تحرير الأرض، ودحر العدو، واستعادة الكرامة، وتم التخلي عن الأحلام العظام في النهضة العربية الشاملة، بل بدأ الشك والريبة ينتشران في الوعي الجمعي العربي في كل الشعارات القومية الكبرى.. في تلك اللحظة التاريخية الغبراء، هبت ريح صفراء محملة بالرمال والغبار، تصعب فيها الرؤية، وتتراجع إلى ما تحت الأقدام، بل قد تنعدم الرؤية أصلا حين يدخل التراب إلى بؤبؤ العين.. كذلك يصعب التنفس، وتضيق الصدور، ويكون من العسير الحصول على الهواء النقي.. في هذه اللحظة التعيسة في تاريخ أمتنا ظهرت قطعان من ضعيفي البصر، ضيقي الصدور؛ تصدروا المشهد، وقادوا الجماهير التائهة في زوابع الغبار تحت شعارات من العبث المقدس.
هذا العبث المقدس صار منهجا لحياة الكثير من المجتمعات العربية والمسلمة، نتيجته تحصين الفساد والفوضى وحمايتهما من النقد أو المراجعة أو التصحيح؛ لأن العبث المقدس هو الدرع التي تحمي أشخاصا ومؤسسات وتيارات وأحزابا تتصدر المشهد الديني ولا يستطيع أحد أن يسمي العبث عبثا لأنه صار مقدسا.
في سبعينيات القرن الماضي بدأت خصخصة عملية الحديث باسم الدين، وخرج لأول مرة الشأن الديني من المؤسسات الدينية العتيقة كالأزهر الشريف ليصبح مشاعا يتكلم فيه من لم يتم الترخيص له بذلك من المؤسسة الدينية، وبدأت تظهر مرجعيات، ومؤسسات تقدم نسخة من التدين غريبة عن المجتمع، غير متوافقة مع تقاليده، بل تحاول أن تفرض عليه تقاليد مجتمعات أخرى، بعد أن احتكرت هذه المرجعيات الجديدة حق الحديث باسم المقدس، بل إنها سعت -بفضل قدراتها التمويلية- أن تطعن في شرعية ومصداقية المؤسسة الدينية العتيقة.
في هذه اللحظة لم يعد هناك من يقوم على حراسة الدين، وحماية المقدس بعد أن صار مشاعا لكل من تزين بزي معين، وأطلق لحية، وبنى مسجدا، أو زاوية للصلاة على جرف الترعة خارج المدينة والقرية.. أصبح هؤلاء الدعاة الذين لا يُعرف لهم تأهيل، ولا تعليم سوى القدرة على توظيف الحكايات، وإخراج النصوص الدينية من سياقها، وتوظيفها لتحقيق الصورة التي يريدون أن يصنعوا المجتمع على شاكلتها. في هذه اللحظة تحول الدين بكل قدسيته إلى وسيلة في صراع أنماط حياة، وثقافات، ونفوذ لمجتمعات، ومؤسسات عابرة للحدود. وما حدث في مصر تكرر بالنمط نفسه في معظم -إن لم يكن كل- المجتمعات المسلمة حول العالم، وفي التوقيت نفسه، وعلى يد النمط نفسه من الدعاة والجماعات.
مع خصخصة الشأن الديني، وخروجه من إطار مؤسساته التي أنشئت لحراسته، بدأت عمليات متتالية من احتكار الحديث باسم الدين من قبل أولئك الذين جاءوا من خارج مؤسسات الدين، ولا يعرف لهم سابق خبرة في علوم الدين، مع هذه الخصخصة للشأن الديني، وتحوله إلى مشروع استثماري وحياتي للدعاة والجماعات وأسرهم، بدأت عمليات معقدة من احتكار ضفة القداسة، واحتكار الحديث باسم المقدس، واحتكار منح صفة القداسة، ومع ظهور الفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعي توسعت اقتصاديات الدين، واستثمارات الدعوة، وتحولت إلى قطاع كامل: اقتصادي وثقافي وسياسي، وأصبح الدين ذاته وسيلة لتحقيق كل الأهداف والطموحات، وهنا صارت صفة القداسة في يد هؤلاء يمنحونها ويمنعونها، بل يبيعونها ويوظفونها لتحقق مصالح اقتصادية وسياسية.
وصارت القداسة مثل خاتم شعار الدولة، من يملكه يستطيع أن يحول غير الرسمي إلى رسمي، والفساد إلى صلاح، والباطل إلى حق، وبدأت المأساة تتوسع وتتمدد في مختلف المجتمعات العربية والمسلمة، وفي ظل هذه الحالات من الفوضى والانفلات اختلط المقدس بالمدنس، وصار من يملك خاتم القداسة قادرا على إضفاء هذه الصفة على أكثر الأفعال والأشياء دناسة، ودناءة، وسادت الفوضى، وضاع الحق، أو صار نسبيا، ولم يعد هناك معيار محدد موحد، وأصبح من حق أي أحد أن يفعل كل شيء، ويقول أي شيء.
وكانت النتيجة أن الجماعات التي تقتل وتذبح وتحرق الأبرياء من غير المسلمين ومن المسلمين تسمي نفسها "خلافة على منهاج النبوة"، وتضفي القداسة على جميع أفعالها، وتبررها وتسوقها تحت شعارات من القداسة عليها وعلى أفرادها ومؤسساتها، وبذلك صارت عصابات "داعش" من المجرمين والمرضى النفسيين، وأصحاب العقد المتراكبة هم رمز الإسلام، وهم أكثر قداسة من أي مقدس، وفي الوقت نفسه أطلق لفظ القداسة على "الحشد الشعبي" وصار اسمه الرسمي في العراق وإيران "الحشد الشعبي المقدس" وهو ليس أكثر من عصابات مماثلة لداعش بررت وجودها بمحاربة "داعش"، وهي التي صنع قادتها ومراجعهم "داعش" وغذوها وسمنوها ونفخوا فيها لتدمير مجتمعات خصومهم الطائفيين، وبذلك صرنا أمام مقدسين يقتل أحدها الآخر، ويكفر أحدهما الآخر، ويرى كلاهما أن الآخر مدنس وليس مقدسا.
حالة العبث بالدين وتسليعه وتسويقه، وتحويله إلى وسيلة ومطية للمغامرين والطامحين، والمرضى النفسيين الذين يعانون من عصاب تاريخي سواء أكانوا في داعش أو قرينها الحشد الشعبي، كلاهما نموذج للعبث المقدس.. نوع من العبث يحمي نفسه بقداسة مزيفة تحوله إلى دين.
هذا العبث المقدس صار منهجا لحياة الكثير من المجتمعات العربية والمسلمة، نتيجته تحصين الفساد والفوضى وحمايتهما من النقد أو المراجعة أو التصحيح؛ لأن العبث المقدس هو الدرع التي تحمي أشخاصا ومؤسسات وتيارات وأحزابا تتصدر المشهد الديني ولا يستطيع أحد أن يسمي العبث عبثا لأنه صار مقدسا.
نقلا عن "الأهرام"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة