عام التسامح ٢٠١٩؟!
المنهج الإماراتي للتعامل مع إشكاليات التعددية والحفاظ على كفاءة الدولة يقدم مجموعة من الدروس التي تجعل من "التسامح" حالة عملية.
أعلنت دولة الإمارات العربية المتحدة ٢٠١٩ عاماً للتسامح؛ وتبعت ذلك بسلسلة من الإجراءات التي تؤكد مصداقية هذه الخطوة، كان منها أمران بالغا الأهمية: أولهما عقد مؤتمر "الأخوة الإنسانية" الذي حضره البابا فرنسيس، بابا الكنيسة الكاثوليكية والحبر الأعظم للديانة المسيحية الكاثوليكية في العالم، وفضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر.. وانتهى اللقاء الذي جرى في أبوظبي بإعلان وثيقة "الأخوة الإنسانية" الموجهة إلى العالم أجمع.
وثانيهما أن دولة الإمارات قد باتت الدولة العربية الوحيدة التي عبرت جسر العلاقات الإنسانية من خلال السماح لجميع الديانات والعقائد المقيمة بالدولة أن تنشئ أماكن العبادة الخاصة بها، وهي حالة خاصة واستثنائية بين الدول العربية.
وفي الحقيقة فإن هناك عشرات الأسباب التي تقف وراء اختفاء التسامح في بلد من البلدان، وهي الأسباب المتعلقة بالمؤسسات والأنظمة الاقتصادية والاجتماعية يجرى ذكرها على كل لسان. ولكن هناك سببا لا يذكر كثيراً وهو أن بعض من يريدون الحرية يصمتون عندما يتعلق الأمر بحرية الآخرين، لا سيما حرية الاعتقاد، وحرية التنوع والاختيار، كما أنهم لا يضعون النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي الذي يكفل هذه الحريات.
فالحقيقة الثابتة طوال التاريخ الإنساني هي أن الاعتقاد في دين أو مذهب أو طريقة سياسية ـ أي أيديولوجية ـ هو مسألة ذاتية تماماً تخص الإنسان وتاريخه وما يحقق له السلام الداخلي.
وليس معروفاً أبداً لماذا أصبح المسلمون مسلمين، والبوذيون بوذيين، ولماذا انقسم المسلمون إلى شيعة وسنة وانقسم المسيحيون إلى بروتستانت وكاثوليك وفرق ومذاهب تحاربت لمئات الأعوام.
وربما كان التفسير الوحيد هو ما جاء في جميع الأديان والمذاهب أن الله جعل البشر شعوباً وقبائل متنوعة ومتعددة حتى تتعارف وتتبادل الأفكار، وإلا لكانت الإنسانية طبعة واحدة من الملائكة أو الشياطين.
وفي معظم البلاد العربية كان الفشل كبيراً عندما اقترب الأمر دوماً من حرية العقيدة، أو عندما اقترب من حرية الانتماء إلى جماعة عرقية مختلفة حتى ولو اشتركت مع الغالبية في نفس الدين وحتى في نفس المذهب.
وعندما كان الرئيس العراقي صدام حسين يضطهد الأكراد تراوحت ردود الفعل ما بين صمت وتعجب ورجاء.. إما تضامناً مع نظام صدام في مواجهة إمبريالية مزعومة أو خوفاً من الانفصال الكردي، فيتفتت العراق الذي يريده الجميع موحداً.
المدهش في الموضوع أن الصمت العربي في المسألة الكردية كان واحداً من الأسباب التي قادت في النهاية إلى الاستقلال الفعلي للأكراد حتى ولو كان الإقليم الكردي لا يزال جزءاً من الفيدرالية العراقية التي لا تزال في دور التجريب.
وفي أكثر من بلد عربي، سقط كثيرون في أكثر من امتحان، عندما خص الموضوع الجماعة البهائية وتسجيلها في بطاقات الهوية، وعندما اقتربت الحرية من موضوع تغيير العقيدة بين المسيحية والإسلام، وفي كل مرة كانت المصادرة على حرية العقيدة تفسر كما فسرت كل المصادرات من قبل على ضوء الاستعمار، وعما إذا كانت العقيدة عقيدة حقاً على ضوء عقيدة أو دين آخر.
وما انطبق على دولة عربية انطبق على غيرها من الدول العربية، فقد تم اضطهاد جماعات مختلفة من القبائل الأفريقية في بعض البلدان العربية الأفريقية، وسواء كانت هذه القبائل مسيحية أو مسلحة وسنية أيضاً.
وفي دول عربية أخرى كانت الاختلافات بين القبائل هي التي خلقت الصراعات، والأمثلة كثيرة لا سيما في الصومال. وكانت آخر الأمثلة هي تلك التي تعلقت بالأزديين في العراق؛ حيث جرت المجزرة لهم من قبل جماعات متعصبة بينما فضلت بعض الأطراف الجلوس في مقاعد المتفرجين، في الوقت الذي خرجت فيه الحكايات والقصص عما إذا كانت هذه الجماعة من أتباع الشياطين أم لا.
وعلى أي حال فإن كل هذا القبح العنصري لم يعد ممكناً القبول به في العصر الحديث، وقد مرت شعوب قبل العرب على هذا الطريق، فقد حاول الأمريكيون دمج واستيعاب السكان الأصليين ومن بعدهم السود بشكل قسري أحياناً، ومن خلال التجاهل في بعض المرات.
وهناك تجارب سابقة للماليزيين تجاه الأقلية الصينية، وادعى الصرب دوماً أنهم لا يعرفون وجود مشكلة للأقلية حتى قامت الأقلية المسلمة بالاستعانة بقوات حلف الأطلنطي بتدمير يوغوسلافيا كلها للفوز بدولة يتمتعون فيها بالمساواة.
وأصبح نفس الموضوع مطروحاً بإلحاح على العالم العربي، فإما المساواة الكاملة بلا تحفظات واستثناءات على أساس العرق أو الدين أو اللون، وتوزيع السلطة والثروة بالطريقة التي تكفل للجميع حقوقاً مشروعة؛ أو حدوث شروخ في الدولة العربية الحديثة قد تقودها إلى التفتت والتقسيم.
هذه القضية الخاصة بالأقليات والاختلافات العرقية والدينية والمذهبية باتت من أهم القضايا التي تحدد مصير العالم العربي كله؛ حيث تصاعدت النزاعات بشأنها حتى باتت المصدر الأكبر للضحايا وعمليات التدمير المادية الجارية لعدد من الدول العربية.
وكان ذلك في جزء منه راجع إلى واقع التعددية والتنوع في الدولة العربية، وفي جزء آخر إلى وجود المثال "الوحدوي" الذي تعبر فيه الدولة عن حالة من الصفاء والتجانس السياسي، بغض النظر عن كل التباينات الأخرى.
وفي العادة فإن وجهة النظر هذه كانت تقدمها الأغلبية باعتبارها حالة "واقعية" تعبر عن الأحوال الجارية؛ بحيث لا تعكرها إلا محاولات التدخل الأجنبي، لكي تقسم أمة واحدة، والمؤامرات العالمية لتفتيت حالة الانصهار القومي والوطني.
وكان ذلك راجعاً ـ جزئياً على الأقل ـ لانتشار فكرة القومية العربية التي بدأت بمغالاة تاريخية عن حالة الوحدة العربية التي كانت موجودة قبل الغزو الاستعماري رغم ما هو معروف من أن العالم العربي والإسلامي كان من الناحية الواقعية مفتتاً بين أمم وممالك وإمارات ومدن وشفالك ومقاطعات.
كما كان راجعاً جزئياً أيضاً الى اعتقاد مبالغ فيه في حالة الدولة القومية القائمة على عملية انصهار تاريخية، بينما الواقع أن الأغلبية الساحقة من دول العالم هي دول مركبة تقوم على تركيبات مختلفة من أعراق وأديان وكتل اجتماعية.
المنهج الإماراتي للتعامل مع إشكاليات التعددية والتنوع، والحفاظ على كفاءة الدولة في نفس الوقت يقدم مجموعة من الدروس التي تجعل من "التسامح" حالة عملية، فضلاً عن كونها حالة إنسانية تدير علاقات العرب بالعالم.
أولها: إنه لا يجوز إنكار القضية كلها، فالتنوع والتعدد هو من الحالات الطبيعية، وما لم يتم إدراكها والتعامل معها، أو يتم النظر إليها كنوع من المؤامرات الأجنبية، فإن القضية على الأغلب سوف تتحول الى أزمات سياسية كبرى.
وثانيها: إن الاعتراف بالتنوع يعني المعرفة الواسعة عن الطوائف المختلفة واعتبارها جزءاً من التراث القومي، فلا يجوز ألا تعرف الأغلبية السنية العربية إلا القليل عن المسيحية والمذهب الشيعي والأقليات والقبائل المختلفة؛ بحيث يكون ذلك جزءاً من الاهتمام الثقافي للدولة.
وثالثها: إن وجود حد أدنى من المساواة القانونية وحقوق المواطنة شرط ضروري لخلق مناخ للتفاهم بين الجماعات المختلفة، بل حتى لخلق مناخ للتوافق حول النظام السياسي إذا كان ذلك ضرورياً.
وعلى سبيل المثال فإن الأقلية المسيحية في مصر قبلت الدولة المركزية الديمقراطية بدلاً من تقسيم السلطة عند قيام الدولة المصرية، لأن الدولة ونظامها السياسي والقضائي قامت بشكل واضح على المواطنة والمساواة أمام القانون.
ورابعها: إن الدولة التي تعيش في حالة من النمو الاقتصادي والاجتماعي المستدام تكون أكثر استعداداً وقدرة على التعامل مع مشكلات التنوع، لأنها تخلف هدفاً مشتركاً في تحقيق الرخاء.
وخامسها: إن الدولة التي تعيش في حالة سلام مع جيرانها، أو مع النظام الدولي، تكون في العادة أكثر قدرة على التعامل مع انقساماتها الداخلية، ليس فقط لأنها توفر على نفسها قيام الخصوم الخارجيين استغلال انقساماتها في الصراع، وإنما لأن الصراع الخارجي كثيراً ما يكون سبباً في منع التوافق السياسي أو تدميره إذا كان موجوداً.
وبالتأكيد فإن التجربة اللبنانية كان ممكناً أن تكون أكثر نجاحاً إذا لم يكن لبنان جزءاً من معادلات الصراع العربي ـ الإسرائيلي. وسادسها: إن التنوع والاختلاف والتعدد والتوافق كلها تعد حالة من حالات الثقافة السياسية غير المعروفة في الدول العربية عموماً بسبب الفكر القومي في مرحلة والفكر الاشتراكي في مرحلة أخرى.
والصراع مع الغرب وإسرائيل في كل المراحل، وكل ذلك يجعل خلق هذه الثقافة ونشرها بوسائل الإعلام والتعليم والتنشئة مسألة ضرورية للتعامل مع تنوع العالم من ناحية والتعامل مع تنوع الداخل من ناحية أخرى.