الظروف الإنسانية والاجتماعية التي نتجت عن جائحة كورونا مثلت فرصة لإعادة موازين الدين إلى طبيعتها بوضع الأخلاق قبل الفقه
مثلت جائحة كورونا تحديا وتهديدا لجميع القطاعات والمؤسسات على اختلاف مجالات عملها وتخصصاتها، ونجح الكثر منها في تطوير وسائل وحلول لتجاوز الآثار السلبية لحالة الإغلاق العام التي عمت الكرة الأرضية، وتقليل آثارها السلبية، ولكن هذه الأزمة ذاتها كانت فرصة تاريخية نادرة للمؤسسات الدينية، وللأسف لم تنتبه تلك المؤسسات لذلك خصوصا الإسلامية منها، وهي موضع الحديث في هذا السياق.
فقد ذهلت تلك المؤسسات وقياداتها عن طبيعة الفرصة المتاحة أمامهم، ولم يروا فيها إلا البعد السياسي فحسب الذي يحافظ على المواقع والمصالح، ولم يدركوا أن هذه فرصة نادرة للمؤسسات الإسلامية، خصوصاً تستعيد بها الكثير من ضاع منها خلال العقود الخمسة الماضية، وتنفض من خلالها غبار خمسة قرون طمس معالم الدين، وجفف منابعه، وعلبه، وقولبه، وحوله إلى طلاسم وطقوس تفوق قداستها قداسة الدين ذاته.
أولا: كانت أزمة كورونا فرصة للقضاء على العشوائيات الدينية التي هيمنت على الكثير من المجتمعات ممثلة في خطاب ديني منفلت، ولا يملك من يتصدرون مشهده المعايير والمؤهلات الطبيعية لممارسة هذه المهنة، ولا يعرف أحد مصادر تمويله، ولا هياكله الإدارية، ولا يمارس نشاطه في أماكن واضحة ومرخصة لنشاطه، كانت الفرصة سانحة للتخلص من تلك العشوائية من خلال تمكين المؤهلين علميا ودينيا من كل تلك الأماكن التي يخرج منها ذلك الخطاب العشوائي.
مثلت جائحة كورونا فرصة حقيقية لتقديم اجتهادات عميقة وحقيقية في الفقه بكل مجالاته ومستوياته؛ لأن هذه الأزمة التي شملت البشرية جميعها جديرة بفتح العقول والقلوب لاستقبال فكر جديد
ثانياً: كانت هناك فرصة لتوحيد المرجعيات الدينية في الدولة الواحدة، أو على مستوى تجمعات من الدول تشترك في تقاليد تاريخية واحدة، وإذا ركزنا على توحيد المرجعية الدينية في الدولة الواحدة؛ حيث يكون لها صوت واحد، وقرار واحد، واجتهاد واحد في كل قضية من القضايا التي تواجه الإنسان والمجتمع في هذه الأزمة سنجد أنه للأسف سيطر البعد الشخصي على الأبعاد المؤسسية والوطنية.
وظلت المؤسسات الدينية مشتتة مرتبكة، كل واحدة منها تعبر عن مصالح وطموحات من يقودها، وتعكس قدراته العقلية والنفسية، ومن ثم كانت مخرجات هذه المؤسسات دون مستوى التحدي، على الرغم من أن هذه كانت فرصة ذهبية لخلق صورة جديدة عن القيادات الدينية تضعها في طليعة المجتمع، وتعطيها المكانة التي تليق بها كمؤسساتها، مهمتها الأساسية حسب ما حددته مقاصد شريعتها: حفظ الدين وحفظ النفس وحفظ العقل وحفظ النسل وحفظ المال.
ثالثاً: مثلت جائحة كورونا فرصة حقيقية لتقديم اجتهادات عميقة وحقيقية في الفقه بكل مجالاته ومستوياته؛ لأن هذه الأزمة التي شملت البشرية جميعها جديرة بفتح العقول والقلوب لاستقبال فكر جديد، واجتهاد جديد، ورؤى جديدة في كل مجالات الحياة، وعلى رأسها الشأن الديني، ولكن للأسف اقتصر الأمر على استدعاء حالة واحدة لجأ إليها النبي محمد صلى الله عليه وسلم حين سقط على المدينة مطر شديد فأمر المؤذن أن يقول للناس صلوا في أماكن وجودكم، أي في رحالكم.
وكانت أمام هذه المؤسسات وقياداتها فرصة فتح الباب لاجتهادات جديدة في كل شؤون الدين من الصلاة عن بعد خلف المذياع، أو خلف أي وسيلة تواصل، أو توجيه أموال الزكاة والصدقات إلى توفير الوسائل الطبية، أو تخصيص أموال العمرة والحج ما بعد الفريضة إلى ميزانيات مواجهة هذا الوباء، أو للتبرع بها لمن فقد وظيفته أو فقد عائله، كذلك كانت فرصة لتحويل بعض فروض الكفاية إلى فروض أعيان، وهناك العديد من القضايا والمجالات التي تحتاج إلى اجتهاد جديد.
رابعاً: كانت هذه الأزمة فرصة أكبر لإعادة تمكين الأخلاق في مواجهة العقل الفقهي الشكلي، فقد طغى الفقه على جوهر الدين، وهو الأخلاق، وتحول الدين إلى مجموعة من القواعد التي تشبه قوانين المرور وتنظيم السير، خالية من الروح والأثر الاجتماعي الإيجابي، فصار من الطبيعي أن تجد من يظهر على سماته الظاهرية الالتزام بكل فروض الدين وسننه، وهو في الحقيقة مجرم يرتكب أحط الجرائم وأدانها.
ولذلك مثلت الظروف الإنسانية والاجتماعية التي نتجت عن جائحة كورونا فرصة لإعادة موازين الدين إلى طبيعتها بوضع الأخلاق قبل الفقه، وقبل الشعائر وقبل كل شيء؛ لأنها هي جوهر الدين، وجميع الشعائر والفروض إنما فرضت لتحقيق نتيجة أخلاقية وقيمية، ففي الحديث القدسي "قَالَ اللَّهُ، تَبَارَكَ وَتَعَالَى: إِنَّمَا أَتَقَبَّلُ الصَّلاةَ مِمَّنْ تَوَاضَعَ بِهَا لِعَظَمَتِي، وَلَمْ يَسْتَطِلْ عَلَى خَلْقِي، وَلَمْ يَبِتْ مُصِرًّا عَلَى مَعْصِيَتِي، وَقَطَعَ نَهَارَهُ فِي ذِكْرِي وَرَحِمَ الْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالأَرْمَلَةَ، وَرَحِمَ الْمُصَابَ، ذَلِكَ نُورُهُ كَنُورِ الشَّمْسِ، أَكْلَؤُهُ بِعِزَّتِي، وَأَسْتَحْفِظُهُ مَلائِكَتِي، أَجْعَلُ لَهُ فِي الظُّلْمَةِ نُورًا، وَفِي الْجَهَالَةِ حِلْمًا، وَمَثَلُهُ فِي خَلْقِي كَمَثَلِ الْفِرْدَوْسِ فِي الْجَنَّةِ .
وفي الحديث الشريف "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناتهُ قبل أن يقضي ما عليه، أخذ من خطاياهم فطُرحت عليه، ثم طُرح في النار".
وقد كانت هذه الأزمة فرصة لتمكين الأخلاق في المجتمع، وتوجيه العبادات إلى وجهتها الصحيحة وهدفها الأسمى، وهو الارتقاء بأخلاق البشر.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة