كان الرد الأمريكي على الدعم الحكومي الصيني هو دائما باستخدام ما يمكن تجاوزا أن نطلق عليه إجراءات سلبية، أي فرض قيود على منتجات الصين.
تعد السياسة الصناعية الصينية التي تتمثل في تدخل الدولة لدعم إنتاج وصادرات بعض الصناعات من بين المجالات التي تعد موضع انتقاد دائم من قبل الولايات المتحدة الأمريكية، حيث ترى واشنطن في هذه السياسة إخلالا بفرص المنافسة العادلة.
حيث يُمكن الدعم الحكومي المنتجات الصينية من اكتساب قدرات تنافسية ما كان لها أن تكتسبها لولا هذا الدعم، ولذلك تطالب الولايات المتحدة وغيرها من الشركاء التجاريين للصين لاسيما أوروبا الموحدة بوقف هذه السياسة الصناعية لأنها تعد انتهاكا لقواعد التجارة الحرة.
ولم يكن للولايات المتحدة سياسة صناعية بالمعنى المفهوم والمباشر لهذه السياسة، وإن كان يرى بعض الاقتصاديين مثل جوزيف ستيجلتز الحائز على جائزة نوبل أن الولايات المتحدة كانت من بين أكبر الدول التي استخدمت السياسة الصناعية تاريخيا من أجل إحراز قصب السبق الاقتصادي، وتبوؤ مكانتها التي تحتلها منذ الحرب العالمية الثانية.
فقد انتقل الاقتصاد الأمريكي من كونه اقتصادا زراعيا إلى اقتصاد صناعي متقدم مع الحرب، حيث كان الجهد الحربي بحد ذاته هو السياسة الصناعية، فقد تم سحب العاملين بالقطاع الزراعي ودفعهم إما للمشاركة في القتال، أو الدفع بهم للمناطق الحضرية لكي يصنعوا السلاح المطلوب، وبعد الحرب، قدمت الحكومة تعليما مجانيا لكل من شارك في القتال من الشباب من أجل ضمان امتلاكهم للمهارات المطلوبة لـ "الاقتصاد الجديد"، وخلال السبعين عاما الماضية، لعبت حكومة الولايات المتحدة دورا مركزيا، باستثماراتها الرئيسية في البحث العلمي والتطوير.
وما تزال الحكومة الأمريكية هي أكبر حكومة في العالم تستثمر الأموال العامة في البحوث والتطوير، وقد ارتفع الإنفاق الفيدرالي على البحث والتطوير من 2،8 مليار دولار عام 1953 إلى 127،2 مليار دولار عام 2018، وصحيح أن النسبة الأكبر من هذا الإنفاق كانت دائما على البحث والتطوير في المجالات العسكرية، إلا أن التكنولوجيا التي تم تطويرها في المقام الأول لأغراض عسكرية وجدت في معظم الأحوال تطبيقات لها في القطاع المدني، وهو ما مكن الولايات المتحدة من تبوؤ مقعد القيادة التكنولوجية عالميا.
وكانت هذه السياسة الصناعية وما أحدثته من تحولات في هيكل الاقتصاد هي سبب التقدم الأمريكي المستمر، فبينما كان التقدم قبل ذلك يستند إلى التوسع في استخدام قاعدة الموارد الطبيعية المحلية الضخمة، صار يستند إلى التزايد المستمر في الإنتاجية، أي إنتاج كمية أكبر من المنتجات بنفس كمية الموارد مع التطور التكنولوجي المستمر، إلى جانب ابتكار الكثير من المنتجات الجديدة.
كان الرد الأمريكي على الدعم الحكومي الصيني هو دائما باستخدام ما يمكن تجاوزا أن نطلق عليه إجراءات سلبية، أي فرض قيود على المنتجات الصينية.
لكن يمكن القول إن الولايات المتحدة لم يكن لها أبدا سياسة صناعية تقدم دعما لبعض الصناعات أو المنتجات بشكل مباشر، وكان الرد الأمريكي على الدعم الحكومي الصيني هو دائما باستخدام ما يمكن تجاوزا أن نطلق عليه إجراءات سلبية، أي فرض قيود على المنتجات الصينية تتمثل في زيادة الرسوم الجمركية على واردات الولايات المتحدة من الصين.
كما كان الإجراء المهم في الرد على محاولة الصعود التكنولوجي الصيني، والذي يترجمه هدف التحول إلى اقتصاد صناعي متقدم متخصص في إنتاج وتصدير السلع المتقدمة تكنولوجيا بحلول عام 2025 طبقا لاستراتيجية "صنع في الصين 2025" هو فرض حظر على بيع بعض منتجات التكنولوجيا المتقدمة مثل رقائق السليكون وأشباه الموصلات الأمريكية للشركات التكنولوجية الصينية خاصة شركة هواوي عملاق التكنولوجيا الصيني.
ويبدو أننا في طريقنا لنشهد تغيرا أمريكيا كبيرا، حيث تنتقل الولايات المتحدة من الإجراءات السلبية إلى إجراءات إيجابية بتبني سياسة صناعية بالمعنى المباشر للكلمة ربما للمرة الأولى في تاريخها، فحسب الأنباء التي نشرتها وكالة بلومبرج اقترح مشرعون أمريكيون أخيرا خطة تمويل تبلغ نحو 25 مليار دولار إلى جانب منح إعفاءات ضريبية من أجل العمل على تعزيز الإنتاج المحلي من أشباه الموصلات ومواجهة المنافسة التكنولوجية المتزايدة من الصين.
وسوف يساعد هذا الجهد على دعم الشركات التي تبني مصانع في الولايات المتحدة وتشتري معدات لصناعة الرقائق، وفي نفس الوقت العمل على رعاية البحث والتطوير من أجل إنتاج أشباه موصلات رائدة.
وسوف تقدم نسخ من هذا التشريع إلى مجلسي النواب والشيوخ برعاية أعضاء من كلا الحزبين الجمهوري والديمقراطي، بما في ذلك السيناتور جون كورنين من تكساس، وهو قيادي في الحزب الجمهوري، وخطة التمويل المقدرة بنحو 25 مليار دولار سوف تكون من أموال فيدرالية ومن ولاية تكساس على مدار خمسة أعوام.
ويهدف المقترح إلى الحفاظ على قيادة أمريكا للصناعة التي يبلغ حجمها 400 مليار دولار والتي أصبحت في مركز الحرب التجارية للرئيس دونالد ترامب ضد الصين، وكانت الشركات الأمريكية مثل شركة انتل قد اشتكت لسنوات عدة من استفادة المنافسين الخارجيين من الدعم الحكومي المقدم لهم.
ويدعو التشريع الأمريكي المقترح وزارة التجارة إلى إنشاء برنامج فيدرالي يتضمن حوافز من الدولة للشركات التي تبني منشآت تقوم بصنع رقائق السليكون المستخدمة في أنشطة إنتاجية أخرى، ويمكن أن يقدم لهذا الغرض نحو 10 مليارات دولار من التمويل المباشر، وسوف تشارك وزارة الدفاع بوضع أولويات للبحث والتطوير واختبار تكنولوجيا الرقائق طبقا لما ينص عليه التشريع. وتقدر تكلفة إنشاء مصنع لإنتاج أشباه الموصلات في المتوسط بنحو 15 مليار دولار
وقال السيناتور كرونين "هذا أمر ملح للغاية، لقد رأينا مدى الخطر الذي نتعرض له حاليا، ومن الواضح أن علينا القيام بالخطوة الأولى، وهذا البرنامج سيمتد على مدى عدة أعوام،"
وسوف يمثل الدعم الحكومي المباشر لصناعة الرقائق كما ذكرنا أمرا نادرا يتعلق بسياسة صناعية للولايات المتحدة، وبشكل خاص بالنسبة للسياسيين الجمهوريين، وكان القلق من كون الشركات الصينية مثل شركة هواوي للتكنولوجيا تمثل تهديدا للأمن القومي الأمريكي قد دفع إدارة ترامب للتحرك للحيلولة دون حصول هذه الشركات على التكنولوجيا الأمريكية.
وصرح النائب ماكول، وهو نائب جمهوري من تكساس قائلا إن "ضمان قيادتنا في المستقبل لتصميم وتصنيع وتجميع أحدث تكنولوجيات أشباه الموصلات يعد أمرا حيويا للأمن القومي الأمريكي ولقدراتنا التنافسية"، وأضاف "مع استهداف الحزب الشيوعي الصيني للهيمنة على سلسلة الإمداد الكاملة لأشباه الموصلات، فمن المهم تعزيز صناعتنا هنا في الداخل."
وتعد صناعة الرقائق خامس أكبر صادرات للولايات المتحدة، وفقا لبيانات اتحاد صناعة أشباه الموصلات، وأنفق القطاع نحو 40 مليار دولار على البحث والتطوير خلال العام الماضي، وهو ما يمثل نحو 20% من إيراداته.
ووفقا لاتحاد صناعة أشباه الموصلات كان التمويل الفيدرالي للبحث والتطوير في مجال أشباه الموصلات ضئيلا كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي على مدار العديد من السنوات، بينما كانت الصين وبلدان أخرى تزيد من إنفاقها في هذا المجال.
وقال كيث جاكسون رئيس اتحاد صناعة أشباه الموصلات "لقد تم ابتكار أشباه الموصلات في أمريكا وما زالت الشركات الأمريكية تقود العالم في تكنولوجيا الرقائق اليوم، ولكن نتيجة للاستثمارات الحكومية المكثفة من المنافسين العالميين فطاقة إنتاج الولايات المتحدة اليوم تبلغ 12% فقط من الإنتاج العالمي لأشباه الموصلات."
هكذا تنتقل الولايات المتحدة نقله كبرى في مجال الرد على التحدي التكنولوجي الصيني وفي محاولتها لإعاقة جهود الصين في التقدم والتحول الاقتصادي، إذ لم تعد تكتفي بفرض قيود في وجه الشركات الصينية، بل أصبحت تسعى لتبني سياسة صناعية مباشرة غير مألوفة في التاريخ الأمريكي.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة