مصانع العراق.. قلاع مهجورة تسكنها الأشباح
ما زال الحديث عن عودة الصناعة الوطنية في العراق إلى عهودها السابقة ما قبل 2003، حديث يتقاذفه التشكيك والجدل رغم الخطط الحكومية.
وفي أرجاء العراق يوجد أكثر من 288 مصنعا ومعملاً، تعاني الصمت وتوقف حركة الإنتاج تسكنها الأشباح.
العراق الذي بدأ نهضة صناعية واسعة مطلع سبعينات القرن الماضي، وشكل حضوراً في الاكتفاء من الإنتاج المحلي وقدرة على التصدير، بات من أكبر المستوردين لأغلب احتياجاته الأساسية وحتى الثانوية منها، جراء توقف أغلب مصانعه ما بعد 2003.
- حرب المياه تدق طبولها في العراق.. دجلة يموت والفرات يجف
- مليارات العراق المهربة إلى الخارج.. بغداد تطارد السراب
ورغم الخطط والمحاولات التي قامت بها الحكومات المتعاقبة على البلاد ما بعد سقوط نظام صدام حسين، للعودة بالصناعة العراقية إلى سابق عهدها، إلا أنها لم تستطع تحريك ماكبنات الإنتاج للعمل مرة أخرى ما عدا استثناءات لا تشكل أكثر من 2% من المجموع العام.
ويمتلك العراق مبانب صناعية ضخمة كان قد دشنها قبل أكثر من 4 عقود، من بينها معامل الفوسفات والورق والسكر والبتروكيماويات والحديد والصلب والزجاج وغيرها من المنشأت الكبيرة.
ويقول مهندس كهرباء، قضى 30 عاماً يعمل في مصنع سكائر "سومر"، شرقي العاصمة بغداد، إنه "من المحزن جداً أن تجد اليوم، كبرى المصانع التي عرفت بجودة إنتاجها وقدرتها على رفع البلاد بالأموال الطائلة، عبارة عن بقايا وأكوام حديد".
عادل، يتحدث بمرارة وحسرة على اندثار الماكينات التي كلفت الدولة ملايين الدولارات، وفقدان قدرتها التشغيلية جراء الإهمال والتعطيل "المتعمد"، الذي لحق بها عقب ما يعرف بمرحلة التغيير.
يوضح عادل خلال حديث لـ"العين الإخبارية"، أن "سكائر سومر كانت تغطي الإنتاح المحلي حتى إن قسماً منها كان يصدر إلى دول أجنبية".
سقوط بغداد
ما بعد سقوط نظام بغداد، في أبريل/نيسان، انتهى معمل سكائر "سومر"، إلى ثكنة عسكرية لإحدى المليشيات وشغل جزء منه مركزا لعزل مرضى كورونا، فيما غابت اليد العاملة وباتت الخطوط الإنتاجية خاوية على عروشها، كما يقول عادل.
ما حدث في معمل السكائر، نموذج لعشرات المصانع الأخرى التي طالتها عمليات الخراب والنهب والسلب خلال الفترة المترافقة مع دخول القوات الأمريكية إلى العراق والتي عرفت بـ"حرب الخليج الثالثة".
خطط لإعادة "صنع في العراق"
بعد نحو شهر من وصول مصطفى الكاظمي إلى رئاسة الوزراء، عام 2020، أعلنت الحكومة العراقية عن عزمها إعادة بناء وتأهيل جميع المصانع والمعامل خلال الأشهر اللاحقة.
اليوم وبعد نحو عام من المساعي الحكومية التي أطلقتها، يؤكد المتحدث باسم وزارة الصناعة، مرتضى الصافي، أنه "تم تأهيل 17 معملاً بينها معامل الأسفلتيات وطابوق المحاويل والأوكسجين" .
ويوضح الصافي لـ"العين الإخبارية"، أن "الوزارة أعدت خطة من 3 مراحل توزعت ما بين القصيرة والمتوسطة والطويلة لإعادة أغلب المصانع العراقية التي أصابها التعطيل".
ويستدرك بالقول، إن "وزارة الصناعة والمعادن كان لديها قبل سقوط النظام 76 تشكيلا مكونا من مئات المصانع والمعامل ولكن بعد عام 2003، تم اختصارها بـ29 تشكيلاً و4 هيئات بواقع 288 معملا ومصنعا".
ويضيف أن "الوزارة ماضية بخطتها التي وضعتها للتأهيل بقية المعامل الأخرى من الـ288، وقد عمدت في بعض منها إلى إشراك القطاع الخاص واستثمار البعض منها لعدم توفر المخصصات المالية اللازمة".
ولفت إلى قرب "افتتاح معمل الحديد والصلب"، في محافظة البصرة الذي يعد واحدا من كبريات المصانع في العراق، مؤكداً "قطعناً أشواطاً طويلة ونشارف على الانتهاء من إعادته للعمل".
وبشأن قدرة الإنتاج المحلي على منافسة البضاعة الاجنبية، يوضح الصافي، أن "المشكلة الاكبر التي أسهمت في بقاء معامل البلاد تحت التعطيل طوال هذه الفترة هو فتح الباب على مصراعيه أمام المستورد الأجنبي وعدم تطبيق التعرفة الكمركية مما شكل عامل إحباط للصناعة العراقية سواء في القطاع العام أو الخاص".
ويعطف بالقول، "لدينا القدرة على المنافسة ونحن مع الاستيراد ولكن ضمن مواصفات مطلوبة ومعايير مقبولة وفق حسابات اقتصادية دقيقة تراعي نوع الاحتياج وعدم تضاده مع المنتج المحلي".
وحول انعكاس قرار البنك المركزي العراقي برفع قيمة سعر الدولار أمام الدينار العراقي على وجود صناعة وطنية، يبين المتحدث باسم الوزارة، أن "السياسة البنكية الجديدة اسهمت في دفع المواطن العراقي إلى البحث عن منتج محلي يتوازى مع قدرته الشرائية بعد أن ارتفعت أسعار البضائع المستوردة جراء خفض عملة البلاد أمام الدولار الأمريكي".
كان البنك المركزي التابع لوزارة المالية العراقية، اتخذ العام الماضي، قراراً ضمنه في بنود الموازنة العامة 2020، يقضي برفع قيمة الدولار العراقي أمام الدينار العراقي للسيطرة على تهريب العملة الاجنبية واحياء الصناعة المحلية.
مافيا وأحزاب تشمع المصانع
تشكك ندى شاكر جودت، النائبة في البرلمان العراقية وعضو لجنة الاقتصاد النيابية، من القدرة على النهوض بالصناعة الوطنية مجدداً في ظل المعطيات الحالية.
وتعزو جودت أسباب ذلك إلى جوانب سياسية تتمثل في إرادات حزبية لقوى وكيانات متنفذة لإبقاء أبواب المعامل الحكومية مغلقة وعاطلة عن الإنتاج.
وتتابع القول لـ"العين الإخبارية"، إن غياب الصناعة الوطنية يوفر قدرة بقاء لتلك القوى من خلال جعل العراق أكبر ساحة للاستهلاك من البضائع الأجنبية بما يحقق الفائدة للدول التي ترتبط بها تلك الأحزاب".
وتضيف جودت، "العراق يملك الطاقات والكفاءات والأموال والثروات ولكن يستورد كل شيء .. أليس ذلك بالأمر المضحك".
وتقترح جودت، بدمج وزارت الصناعة والتجارة والزراعة في تشكيل يسمى "وزارة الاقتصاد"، لكون تلك المؤسسات "لا تضيف أي إيرادات لموازنة البلاد بل على العكس أنها تستهلك أموالاً طائلة وبدون أي مقابل أو مردود".
وتحذر عضو لجنة الاقتصاد النيابية، من تداعيات ذلك الأمر وما يمثل من تهديد خطير للأمن الاقتصادي في العراق، مما يجعله عرضة للانهيار في حال وقوع أي ظرف طارئ يقطع عليه خطوط الاستيراد.
وكانت مؤسسة "نيريج "، المختصة بالبحوث الاستقصائية، كشفت عن تقرير في نوفمبر/ تشرين الثاني، الماضي، أن قيمة الاستيرادات في العراق طوال العاميين الماضيين بلغت نحو 55 مليار دولار.
وذكرت في تقريها أن الإيرادات الكمركية المتحققة جراء تلك القيمة لم يتجاوز الـ3%، فيما كان من المفترض أن يصل إلى نحو 20%.
وفي ذلك الصدد، يرى الخبير الاقتصادي، عبدالرحمن المشهداني، أن "عدم تطبيق التعرفة الجمركية وغياب الدعم الحكومي في توفير المواد الأولية من الأسباب الرئيسة التي تقف وراء خروج الصناعة العراقية من مشهد الإنتاج والمنافسة".
أسباب سياسية
ويربط المشهداني البطء في استرجاع المعامل الحكومية من الاندثار والتعطيل إلى "جوانب سياسية أكثر مما هي أسباب فنية ومالية".
ويؤكد المشهداني، لـ"العين الإخبارية"، أن نحو 112 معملاُ تابع لهيئة التصنيع العسكري من مجموع 188، قد تعرض للنهب والسلب، ولكن أغلب المصانع المدنية التابعة للقطاع الحكومي تم المحافظة عليها وبقيت دون أن تطالها السرقة، فلماذا تعطل عودتها للعمل طوال ذلك الوقت؟".
ويرصد المشهداني، مجموعة من الأحداث التي تؤشر على تدخل بعض المافيات في تعطيل النهوض بالصناعة الوطنية ، إذ يقول إن هنالك معامل حققت نجاحاً في كسب ثقة المستهلك من بينها معمل "أبو غريب"، للألبان في العاصمة بغداد وأخر في كربلاء ولكن طالها الحرق من "جهات مجهولة"، مما حدى بها إلى الإغلاق.
ويشير المشهداني إلى جانب آخر يقف حجر عثرة في طريق عودة الصناعة العراقية، وهو اكتظاظ المنشأت المعطلة وحتى التي تعمل منها بأعداد كبيرة من الموظفين يتجاوز 4أضعاف حاجتها الفعلية من العاملين في بعض الأماكن.
ويستشهد بالقول: "أعداد موظفي وزارة الكهرباء في العراق يتجاوز 2.60 ألف وبطاقة إنتاجية تحققها نظيرتها في الكويت بـ30 ألف موظف".
ويتوقع المشهداني، إذا ما توفرت الإرادة الوطنية قبل الفنية سيستغرق عودة الصناعة العراقية ما بين الـ10-15 عاماً".