لطالما طرح الباحثون سؤالا إشكاليا حول الخيط الرابط بين الإنتاج الفكري الإبداعي الذي تميز به بعض الفلاسفة.
وكذلك اللمحات الإبداعية التي وسمت مسيرة عدد كبير من الأدباء والكتاب من جانب ، وبين "القلق الوجودي" للشخصية المبدعة والذي عرفه الفيلسوف كيركجارد في كتابه مفهوم القلق بأنه "دوّار الحرية" من جانب آخر.
بعض الباحثين توقفوا عند جدلية العلاقة بين الأبعاد السلوكية غير السوية لدى بعض المفكرين والمبدعين، وبين نتاجهم المعرفي المتميز، فوجدوا أنفسهم في مواجهة مع فرضية الأسبقية أو الأولوية لمن على مَنْ بين طرفي المعادلة، وعندما حاولوا تخليص الذات المبدعة من شوائبها عبر عملية نقدية مجردة اصطدموا بإشكالية أوسع مداراً في الفضاء النقدي تتطلب القيام بفصل الذات عن الموضوع كمرحلة أولية لكي يتمكنوا بعدها من إطلاق حكم أو أحكام وجوبية عن مدى أخلاقية تبني أفكار بعض المفكرين من هذا النمط، أي مضطربي السلوك.
هل من الإنصاف إهمال أفكارهم ونتاجهم المعرفي انسجاما مع الإيمان بضرورة تلازم المنتَج الإبداعي مع السلوك السوي؟ ظل هذا السؤال الإشكالي ماثلا منذ عصور النهضة الأولى، وتحديدا ما تعلق بالمنتج الإبداعي القادم من العالم الغربي بصنوفه الفلسفية والأدبية والفكرية، لكنه بالمقابل لم يغب في أي مرحلة من مراحل التطور والإبداع الفلسفي والأدبي في العالم الشرقي عن طاولة الحوار والنقد، ولم تتوقف حتى أيامنا هذه محاولات تفكيك إشكالية العلاقة الملتبسة بين الذات المبدعة وبين منتجها الإبداعي، خصوصا إذا ما كانت تلك الذات قد وُسِمت بسلوكيات شخصية وفردية تتنافى مع بعض قيم المجتمعات التي تعيش فيها، قد تجد السلوكيات الشخصية للمبدع مبررات لها في قوانين العالم الغربي وكذلك في أحكام مجتمعاتها، وبالتالي كانت نتائجها أقل وطأة على المتعاملين مع الإرث الفلسفي، أو الفكري أو الأدبي لهذا النمط من السلوكيات الشخصية، ولكن في عالمنا الشرقي عموما لا تبدو الأحكام سهلة، وأحياناً لا تجرؤ أن تكون تبريرية قياسا بسلم القيم المجتمعية.
يكاد يجمع الدارسون على أن الرفاه الشخصي والطمأنينة الجوّانية تقلل فرص تغذية ميول الإبداع وتطويرها في الحقول الفلسفية والمعرفية والأدبية عند بعض الأشخاص، بل قد يسهم ذلك الاستقرار الروحي والنفسي في الابتعاد عن سلوك متاهات الأسئلة الوجودية المفجرة للجدل وللنقاشات العميقة المفتوحة على اللانهاية، ولذلك يلعب الرفاه الشخصي والطمأنينة دور المثبّط لمثل هذه الميول وللطاقات الإبداعية عند الفرد. التقت غالبية البحوث النفسية ونتائجها عند حقيقة أن المعاناة الفردية للذات المبدعة وما تفرزه من أحاسيس وتصورات خاصة، هي بمنزلة منجم الأفكار لأنها تتطلع للانعتاق والتحرر من ضغط اللحظة الضاغطة على الروح المعذبة بتأثير مباشر من "دوار الحرية" الكيركجاردي. بين التوق للانعتاق المطلق المتخَيَّل عند بعض المبدعين، واصطدام الذات العاقلة بالواقع الذي ترفضه، تعتمل صراعات داخلية ذات طابع وجودي مثقلة بأسئلة مفتوحة وأحيانا مطلقة، وإجابات فلسفية معلقة، وعندها يظل البحث بين ماهيتي الصراع في دائرة العصف الذاتي المتجدد دون الوصول إلى ضفاف الإجابات الحاسمة التي من شأنها أن تُفقِد الذات المبدعة قدرتها على الاستمرار والتجدد.. هل من سبيل إلى جعل الهواجس المضنية التواقة لعالم أكثر جمالا ورحابة، مبعثاً لمزيد من التجدد والتطور الإبداعي؟.. منذ فجر المعرفة الأول، ارتبط الإبداع بكل صنوفه بقدرة الإنسان على استيلاد الأسئلة المنبثقة من دأبه لفهم الواقع وتفسيره، وبمدى قدرته على تجسيد الأفكار النظرية بصيغ ملائمة لتطور الإنسان من خلال مزاوجتها مع الواقع . قديما قالوا "عندما تتوقف الأسئلة ينتهي الإبداع". يبدو أن قدر الإنسان، المفكر والمتلقي أيضاً، أن يبقى معلقا بين طموحاته التي لا تنتهي، وبين أفكار مبدعين تتضارب حول إبداعهم وسلوكياتهم الآراء.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة