روديارد كبلنغ.. عودة الابن غير الضال

من لا يعرف، من العرب، الشاعر والكاتب البريطاني روديارد كبلنغ، يعرف مقولته الشهيرة: "الشرق شرق والغرب غرب، ولن يلتقيا أبدا"
من لا يعرف من العرب الشاعر والقاص والكاتب البريطاني روديارد كبلنغ، يعرف مقولته الشهيرة: "الشرق شرق والغرب غرب، ولن يلتقيا أبدا". هذا الحسم الأيديولوجي من جانب صاحب "كتاب الأدغال"، جعلته في نظر الكثيرين الناطق الثقافي باسم النزعة الإمبراطورية (الاستعمارية) البريطانية، وبسبب مواقفه المستمدة من هذه المقولة أطلق عليه جورج أورويل لقب "نبي الإمبراطورية"، وإن كان فيما بعد أبدى احترامه الشديد له بسبب موهبته الأدبية التي لا تضاهى.
كبلنغ هذا، وبهذا الوصف تحديداً، يعود حالياً ـ عودة الابن غير الضال ـ ليتصدر الاهتمام الأكاديمي البريطاني، وكأنه يخضع لاكتشاف جديد. فالنزعة الممتدة إلى خارج حدود الجزيرة الإنجليزية، وما تواجهها من تحديات تجعل من المتحمسين لها يبحثون عن مبرر ثقافي يسوّغ لهم توجهاتهم، أو أيقونة يرصعون بها مراميهم التي أصيبت بالضمور خلال العقود الماضية.
ولعل الصدفة وحدها، هي التي جعلت كبلنغ قبل عامين يعود إلى صدارة الاهتمام، فمن دون سابق تصميم عثر الباحث الأميركي توماس بيني على نحو 50 قصيدة لروديارد كبلنغ في محفوظات عائلته أثناء أعمال الترميم في أحد منازله في مانهاتن، وقد تم كتابة بعض هذه القصائد خلال الحرب العالمية الأولى والتي خسر كبلنغ بسببها ابنه.
يستحق كبلنغ هذا الاهتمام وأكثر، إذ يكفي أن هنري جيمس، مثلا، وصفه بأنه "واحد من أكثر العبقريات كمالاً"، لكن كبلنغ الجديد، العائد بغزارة إلى صفحات الصحف البريطانية، وملاحقها الثقافية، وكذلك إلى الدوائر الأكاديمية، يعود بمشروعه الأيديولوجي وليس بمنجزه الأدبي.
فصحيفة مرموقة مثل "الإندبندنت"، على سبيل المثال، تخصه بشكل شبه دوري بإضاءات متميزة غير مسبوقة، تبين العوامل الكثيرة التي صنعت عبقريته الأدبية.. أين؟ في الهند، المستعمرة البريطانية السابقة التي ولد فيها عام 1856، ونشأ في مدينتها بومباي ومنها انطلقت مسيرته المهنية.
ففي بحث جديد أعدته المحاضرة في جامعة لندن سارة لونسديل، ونشرته في موقع "المحادثة" الجامعي ونقلته "الإندبندت" سلطت الأضواء على العناصر التي جعلت من كبلنغ "حكواتي" قديرا، مستفيدا من مسيرة مهنية بدأها في عمر مبكر في مسقط رأسه الهندي، من هذه المهنة اكتشف قدرته على المراقبة والقص، واستخدام المنهج التجريبي في الكتابة، وضخه بجرعات عالية من الخيال.
فقد عاد كبلنغ ذو الستة عشر عاما من طفولة ومراهقة بائسة في بريطانيا إلى الهند، لكنه يتمتع بموهبة رفيعة جعلت منه بسرعة يمثل نصف هيئة التحرير في الصحف التي عمل بها في لاهور، بحسب ما كتبه في مذكراته "شيء من نفسي".
وفي حين تستند شهرة كبلنغ على كتبه الرائجة مثل "كتاب الأدغال" و"مجرد قصص"، إلا أنه كتب مئات آلاف الكلمات في تقاريره الصحفية قبل أن يستيقظ خياله الخفي، حسبما قال.. وقد ساعدته مهنته الصحافية على وجه التحديد في إجادة الاختصار والتكثيف، فالمساحات المحدودة على صفحات الجريدة كانت تقتضي منه أن يجعل لكل كلمة يكتبها، وزنا ومذاقا وإذا لزم الأمر رائحة..
بهذا المعنى تقول الباحثة لونسديل، بأن أسلوب كبلنغ بات ينطوي على طبقات من المعنى، بحيث تصبح قصة واحدة من قصصه القصيرة أكثر إيحاء من كتاب يخطه مؤلف آخر.
وبعد فترة وجيزة من تكليفه بأول مهمة له كمراسل لصحيفته، بدأت تظهر قصصه القصيرة التي من شأنها أن تجعل منه شهيرا، وبين العامين 1884 - 1885، أظهرت أعمال كبلنغ ليس ما تحتضنه ذاكرته من الطفولة بل ما يختزنه خياله من رؤى.
والعديد من المضامين والمفاهيم في قصصه القصيرة، ابتداء من الأصل الحكائي إلى البناء السردي وصولا إلى الرؤى والمقاصد، ظهرت أولا في أعماله الصحفية، في هذه المرحلة، بدأ كبلنغ يفرج عن مواقفه الانتقادية الشديدة للبلد الذي ولد ونشأ فيه "الهند" انتقادات تمظهرت بحمولات عنصرية، حتى ولو أنها ذهبت في مناحٍ اجتماعية، مثل آرائه المدينة لمظاهر الكسل والفساد وانعدام النظافة، ولم يخفف من ذلك تعبيراته العامة عن حب وتقدير للبلد الشاسع، خصوصا لما يثيره في نفسه من دهشة وغموض.
الدهشة والغموض، كانتا دائما تعويذة الغربيين في النظر إلى الشرق، وكبلنغ واحد منهم..
أعمال كبلنغ الصحفية، ظهرت أخيرا في مجلد يضم المئات منها حرره توماس بيني، لكن المئات منها ما تزال مجهولة، أو لم يعاد نشرها.
كان واحدا من المهام الأولى التي كلف بها كبلينغ أن يقدم تقريرا عن زيارة الوالي لمهراجا باتيالا، نحو 200 ميل من لاهور، في مارس 1884.. يومها كان كبلنغ لا يزال في سن المراهقة، وبكلماته التقط المراسل الشاب براعة العرض المبهر: "الفيلة المرصعة بالفضة وزخارف من الذهب.. تتأرجح جيئة وذهابا مثل السفن الراسية، ضوء الشمس ينعكس على حلي الذهب والأقراط المرصعة حتى ليبدو وكأن قارعة الطريق تشتعل بكنوز ألف ليلة وليلة، والفيلة نفسها تشرق مثل يراعات ممجدة".
هذه اللغة البليغة لصحافي شاب، تمثل المرجعية اللغوية والمضمونية التي نهل منها نصه المبهر عن "رقصة الفيل" في "كتاب الأدغال".
وبحسب التدقيق الذي أجرته الباحثة سارة لونسديل في مقالات كبلنغ الصحفية، التي كتبها ونشرها في الهند، فإن الشرق الذي اعتبر في مقولته الشهيرة أنه "سيبقى شرقا ولن يلتقي أبدا مع الغرب"، كان بالنسبة إليه مجرد حافز خيالي يستمد من أساطيره السحر والغموض، وهي الثيمة التي سادت كل كتابات الغربيين سواء كانوا مستشرقين أو مجرد مستلهمين، قبل أن تزيحها بطبيعة الحال ثيمة أخرى هي ثيمة الإرهاب.
بطاقة ثقافية
كان كبلنغ عاشقاً للأسفار إذ جاب مختلف الأصقاع في آسيا وأوربا وأمريكا وأفريقيا، غير أن الهند حظيت بحصة كبيرة من أعماله ومنها رائعته "كتاب الأدغال" التي تعد واحدة من كلاسيكيات أدب الأطفال العالمي.
ـ حاز كبلنغ عام 1907 على جائزة نوبل للآداب ليكون أول إنكليزي يحصل عليها وأصغر من يمنح هذه الجائزة، كما رشح عدة مرات لنيل لقب الفارس وشاعر البلاط غير أنه اعتذر عن القبول.
ـ واصل كبلنغ الكتابة حتى أوائل الثلاثينات وتوفي عام 1936 عن سبعين عاماً.
ـ لروديارد كبلنغ العديد من القصائد، مثل: "قصيدة مندالي" 1890 و"قصيدة جانجا دين" 1890.
ـ مات كبلينغ بسبب ثقب في الاثني عشر بتاريخ 18 يناير 1936، وكان عمره 70 سنة، أحرق جثمانه في محرقة غولدريس غرين، ودفن رماد جثته في ركن الشعراء.
ـ من الطرائف في حياة كبلنغ أن إحدى المجلات نشرت نعيه قبل يومين من وفاته فما كان منه الا أن يكتب اليها قائلا: لقد سمعت للتو بأنني ميت، لا تنسوا إلغاء اشتراكي في مجلتكم!