بعد أن قصفت إسرائيل مبنى القنصلية الإيرانية في سوريا، مؤخراً، صعّدت طهران من خطابها العدائي تجاه تل أبيب، حيث وجه المرشد الإيراني علي خامنئي تهديدات صريحة بالانتقام من إسرائيل.
ويبدو الأمر كما لو كانت إيران وإسرائيل في طريقهما إلى مواجهة مسلحة أو حرب مفتوحة، وتكسران بذلك إحدى قواعد الاشتباك المتعارف بينهما على مدى الصراع الممتد بينهما لأكثر من أربعة عقود.
لكن أغلب المراقبين لتطور العلاقة بين الدولتين لا يزالون يتشككون في وقوع الرد الإيراني على الأقل الرد المباشر، فدبلوماسية الاحتفاظ بالرد في الوقت والمكان المناسبين باتت محفوظة، ولأنها ليست المرة الأولى التي تقع فيها مثل تلك الحوادث وخير مثال عملية اغتيال قائد فيلق القدس قاسم سليماني.
وفي كل مرة تزداد حدة التوتر وتتبادل الدولتان التراشق الإعلامي والتهديد بالرد والانتقام. ثم تقف الأمور عند هذا الحد، إلى أن يبادر أحد الطرفين مرة أخرى باستهداف الطرف الآخر بعملية قصف أو اغتيال أو تفجير، ليعود التوتر وتبادل التهديد والتلويح بالحرب مجدداً.
ولذلك فعلاقة الطرفين شبه غامضة وغير مفهومة بشكل عام، ويصعب تصنيفها إذا كانت علاقة تعاونية أم صراعية. فدواعي الاضطرار فيها أقوى من المحركات الذاتية في الدولتين، بمعنى أن أياً من الدولتين لا تملك القدرة على كسر إرادة الأخرى، أو القضاء عليها وإنزال هزيمة نهائية بها. فتدور العلاقات والتفاعلات بينهما في دورة متكررة من الضغوط والمناوشات والضربات المحدودة التي تهدف إلى الحد من قوة الدولة الأخرى، لكن دون الانزلاق إلى حرب شاملة.
وإيران التي تعتبر إسرائيل "شيطاناً" وترفع شعار "الموت لإسرائيل" كما تصدر شعارات عن تحرير القدس ودعم حق الفلسطينيين، لم تتخذ قط خطوة واحدة عملية ضد إسرائيل على الأقل خطوة مباشرة. وفي كل الاعتداءات الإسرائيلية على الفلسطينيين وانتهاك الحقوق والمقدسات الإسلامية، لم تبادر إيران يوماً إلى شن هجوم مباشر على إسرائيل، لا بنفسها ولا من خلال أذرعها في المنطقة، خصوصاً "حزب الله" اللبناني الذي يوجد على الحدود الشمالية لإسرائيل. وطوال العقود الأربعة الماضية، لم يشهد تاريخ إيران الخمينية تقديم مساندة عملية للفلسطينيين، سوى دعم مالي لحركة حماس وبعض فصائل المقاومة. بالإضافة إلى ترديد خطاب إعلامي معادٍ لإسرائيل و"اليهود".
في المقابل، ترى إسرائيل أن طهران هي راعية الإرهاب والتطرف في الشرق الأوسط وتسعى باستمرار إلى القضاء على اليهود. ورغم ذلك، لم تقم تل أبيب بعمل عسكري واحد ضد إيران. بل إن البرنامج النووي الإيراني الذي تعلن إسرائيل أنه خطر على الأمن والاستقرار في العالم وليس في الشرق الأوسط فقط، بدأ واستمر ويكاد يكتمل بامتلاك طهران قدرات نووية عسكرية، وإسرائيل تكتفي فقط بالتحذير والتنبيه لخطورته. أما حين شرع العراق في تدشين برنامج نووي، لم تتوانَ إسرائيل عن تدمير المفاعل الذي لم يكن قد بدأ نشاطه فعلياً.
خلال عقد الثمانينيات، أي بعد نشوب ثورة الخميني في إيران مباشرة، كان التراشق الإعلامي والعداء الظاهري بين الدولتين في ذروته. بينما كانت إسرائيل تدعم إيران في حربها ضد العراق وشريكا أصيلا في فضيحة "إيران- جيت" لنقل الأسلحة الأمريكية إلى طهران. وبعد ذلك بعقدين، كانت إسرائيل حاضرة بشكل مباشر مع واشنطن وطهران في عمليات التنسيق والتحضير للغزو ثم الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003.
العداء والتناقض بين الدولتين ينحصر فقط في الإعلام والخطاب الموجه بصفة خاصة للداخل في الجانبين. أما على مستوى السلوك الفعلي، فالمصلحة هي التي تحكم العلاقة وليس المبدأ ولا العقيدة، فلا دور ولا تأثير لرعاية إيران للإرهاب ولا لتنكيل إسرائيل بالفلسطينيين.
وباستثناء عمليات الاغتيال التي تستهدف بها إسرائيل مسؤولين عسكريين أو علماء إيرانيين، يتبادل الطرفان المناوشات والتحرشات بشكل غير مباشر، فلا مواجهة ولا عملية تجري على أرض إيران أو في إسرائيل وإنما يستهدف كل منهما مصالح الآخر أو مصالح حلفائه وتديران معاركهما دائماً على أراضي دول أخرى وعلى حساب مصالحها.
وهكذا فإن إيران وإسرائيل تديران العلاقة بينهما وفق قواعد محددة وتلتزمان بها بدقة. فلا عداء مطلق وكامل، ولا حرب أو مواجهة شاملة، والخلاف والتباين حول المصالح والنفوذ والأمن وليس على مبادئ أو حقوق أو الحق في البقاء، فكلتا الدولتين تتعايش مع الأخرى، بل وتستفيد من وجودها بأكثر مما تتضرر.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة