تدخل روسيا مساحاتٍ جديدة من المواجهة بعد عام على عمليتها في أوكرانيا، وسط سيناريو صفري مع غياب توجه دولي لإعادة ترتيب الحسابات سياسيا وعسكريا، وهو ما برز في التصريحات الأمريكية، وردود الفعل الروسية والصينية ودول أوروبا.
ويؤكد ذلك عدة أمور:
وجود قناعة روسية بأن الولايات المتحدة تريد إنزال الهزيمة بالجانب الروسي، وأن دول الناتو تستهدف المصالح الروسية في دوائر الحضور الاستراتيجي، ومن ثم فإن الحل هو استمرار المواجهة غير المباشرة، التي يعمل من خلالها كل الأطراف لتحقيق مكاسبهم الكبرى.
ولا تزال موسكو تعمل في إطار عملية محدودة، وليس عملية شاملة، بعد أن حققت الحد الأدنى من أهدافها بضم المناطق الأربع المجاورة، لوهانسك ودونيتسك وزابوريجيا وخيرسون، وستتحول إلى مسارات أخرى ترتكز على إقليم دونباس فقط واحتلال المدن تباعا، ما تطلب تنسيقا عسكريا والدفع بقادة المؤسسة العسكرية الروسية للعمل بعد الاستدعاءات المتتالية لعدد كبير من الجنرالات الكبار للخدمة في الجبهة الأوكرانية.
روسيا -مع دخول الحرب عامها الثاني- ربما تغير خططها العسكرية، ما سيؤدي للدفع بقوة عسكرية كبرى، والحرب على جبهات جديدة، أي إن فرص التصعيد قائمة ومحتملة في ظل استمرار التصعيد الغربي، مدعوما بدور أمريكي مباشر يعمل لدفع روسيا لخيارات محدودة، أي تمدد للموقف الروسي في الداخل الأوكراني، ما يضع دول الناتو في مواجهة ما سيجري، وقد يتم استهداف أراضٍ أوروبية في ظل تحرر روسيا من المعطيات التي وضعتها منذ بدء المواجهة الروسية الأوكرانية، والتي أكدت أن روسيا لديها متطلبات أمنية واستراتيجية تعلمها دول الناتو جيدا، لذا فإن أي خروج عنها سيؤدي لاستهداف أراضي الناتو، خاصة أن استمرار الدعم العسكري الأوروبي والأمريكي لكييف، ولو محدود، سيتم ترجمته في دوائر الكرملين بأنه "عمل عدائي".
إن تجميد روسيا العمل بمعاهدة "ستارت الجديدة" قد يؤدي لمزيد من الاحتقان بين واشنطن وموسكو يتجاوز ما كان يجري، فالخروج الروسي من بعض اتفاقيات الحد من التسلح سيؤدي إلى حالة فوضى دولية في ظل عجز الأمم المتحدة عن وضع قواعد للتعامل، ما قد يعني أن الجانب الأمريكي قد يدفع روسيا إلى مزيد من التشدد والتصعيد دون ضوابط، ليس فقط في أوكرانيا، وإنما أيضا في دول الجوار الأوروبي، ما يعني أن أراضي الناتو ستكون مستهدفة بالفعل في أي عمل عسكري، وهو ما تدركه دول أوروبا، إذ إن الناتو لم يسبق له خوض مواجهة مع روسيا في مسرح عمليات متعدد، أو أنه استطاع التعامل مع المخاطر المناوئة بصورة منفردة، بعيدا عن الحليف الأمريكي، الذي ما زال مكتفيا بدوره الرمزي، كزيارة الرئيس جو بايدن لكييف، فيما تعمل الدبلوماسية الأمريكية على طمأنة الحلفاء الغربيين، ما يؤكد أن الدور الأمريكي ما زال يتبنى فعليا دعم أوكرانيا وعينه على دول الناتو.
وما زال الواقع السياسي والاستراتيجي يشير إلى عدم وجود فرص حقيقية للتهدئة، في ظل مسعى كل طرف للتصعيد لتحسين شروط التفاوض عندما تحين ساعة وقف إطلاق النار، ومن ثم فإن التصعيد العسكري ورغبة أوكرانيا في استمرار الحرب مرجعه رمزي في التقدير العام، فأوكرانيا لن تستعيد شبه جزيرة القرم، ولن تعيد روسيا المناطق الأربع، "المحررة" وفقا لمفهوم روسي، وإنما قد تقبل بترتيبات أمنية تراعي الترتيبات الأمنية للدولة الروسية الكبرى، والتي تتحدث في فضاء روسي كامل، ليس مقصورا على أوكرانيا.
في المقابل، فإن انتقال أوكرانيا إلى مرحلة القبول بموقف روسيا سيأخذ بعض الوقت، خاصة أن الجانب الأمريكي ما زال لديه توجه بإضعاف القدرات الروسية وإنهاكها، فيما تعمل روسيا في إطار مواجهة ترتيبات أمنية متسعة، والتي قد تتغير في الفترة المقبلة حال استمرار المواجهة وتحولها إلى مواجهة كاملة، وهو أمر ليس مستبعدا في ظل ترقب ومتابعة بعض الأطراف للعب دور رئيسي عندما تحين ساعة التوافقات الأولية، ومنها الصين، التي ما تزال تدعو لخيار السلام الدولي وعدم الاستمرار في الحرب، ولكن عينها على طرح ملفات مقابل ملفات تتعلق بالأمن الآسيوي.
ويعتمد الوسيط الصيني على استراتيجية مرنة وواضحة، ولن يقدم شيكا على بياض للجانب الأمريكي الأوروبي، خاصة أن تمدد العلاقات الروسية الصينية سيفتح الباب أمام مزيد من التعاون الاستراتيجي والسياسي، وهو ما يقلق الولايات المتحدة ودول الناتو، التي تتخوف من استهداف أراضيها.
مجمل القول إن استمرار المواجهة الروسية الأوكرانية سيفتح باب الخطر الحقيقي أمام استقرار العالم، خاصة أنه لا توجد مؤشرات بيّنة على للعمل على خيار الحل المؤقت أو ضبط مواقف الطرفين، في ظل غلبة الخيار العسكري، فيما العالم ينتظر مفاجآت حقيقية تتجاوز التهديد باستخدام النووي إلى الدخول في حالة فوضى كاملة حال تحلَّلت روسيا من الاتفاقيات الدولية، فوقوع عمل غير مقصود من قبل أي من الأطراف قد يؤدي لحرب عالمية جديدة، وهو أمر غير مستبعد.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة