إن هذا الفيروس يرغمنا على إعادة النظر في هويتنا وقيمنا، وسوف يساعدنا هذا الوضع على إعادة تحسين أنفسنا
لم يكن الانهيار الأخير في أسعار النفط الأول من نوعه، كما أنه لن يكون الأخير، طالما توافرت في السوق عوامل موضوعية تتمثل في انخفاض الطلب بشكل كبير أو ارتفاع في العرض أو كلا العاملين معا.
وقد سبق لسوق النفط قبل الانهيار الذي حدث خلال شهر مارس الحالي أن مرت بعدة انهيارات. فقد كانت هناك ستة انخفاضات كبيرة سابقة في أسعار النفط هي تلك التي تمت خلال الفترات يناير 1986-يوليو 1986، ومن أكتوبر 1990-أبريل 1991، وأكتوبر 1997-أبريل 1998، ومايو 2001-نوفمبر 2001، ثم الانهيار الذي حدث مع تفجر الأزمة المالية العالمية في خريف عام 2008، ثم الانهيار الذي وقع في النصف الثاني من عام 2014 واستمر حتى عام 2016.
وبشأن الدوافع وراء الانهيار الحادث عام 2014 أشار تقرير للبنك الدولي إلى أنه بالمقارنة مع الانهيارات التاريخية السابقة فهناك دور مهيمن لعوامل العرض، والتشابهات هنا هي فقط مع الانهيار الذي حدث في الأسعار في عام 1986. حيث حدث كل من الانهيارين في أعقاب ارتفاع كبير في أسعار النفط تلاه توسع كبير في إمدادات البلدان خارج الأوبك؛ حيث أثرت الإمدادات من ألاسكا، وبحر الشمال، والمكسيك في انهيار عام 1986، كما أثرت الإمدادات من النفط الصخري الأمريكي، والنفط الرملي الكندي، والوقود الحيوي في الانهيار الذي جرى خلال عام 2014. وفي كل من الانهيارين غيرت أوبك سياستها من استهداف الأسعار إلى الدفاع عن حصتها في السوق، ففي عام 1986 كان التعبير المستخدم هو "حرب الأسعار"، أما في انهيار عام 2014 فقد كان الشعار المرفوع صريحا "ضرورة الدفاع عن الحصة في السوق مهما كانت التكلفة". وعلى عكس هذين الانهيارين كانت كافة الانهيارات الأربعة الأخرى ترجع إلى انخفاض ملحوظ في الطلب العالمي.
الاقتصاد العالمي، الذي تم إعادة تشكيله عبر ثورة تكنولوجيا المعلومات، قد أصبح عموما أقل كثافة في استخدام الوقود. كما أن الهموم الخاصة بالتغير المناخي أعادت صياغة سياسات الطاقة. كما أن عولمة سوق الغاز العالمي مترافقة مع الانخفاضات المنتظمة في تكلفة ومدى إتاحة الطاقة المتجددة
وركز تقرير البنك الدولي من ثم على أن الأمر الواضح في انخفاض عام 2014 يرجع إلى الزيادة الكبيرة في العرض، مع عدم تحرك أوبك بالطبع لخفض مستوى إنتاجها للدفاع عن الأسعار.
وعلى خلاف ذلك ذهب تقرير وكالة الطاقة الدولية لعام 2015 إلى أنه وعلى خلاف انخفاضات السعر السابقة، أتى الانخفاض في عام 2014 مدفوعا من قبل كل من العرض والطلب في ذات الوقت، فالنمو القياسي في العرض خلال عام 2014 يقدم واحدا من العوامل وراء هذا الانخفاض، بينما الانخفاض غير المتوقع في نمو الطلب يقدم العامل الآخر.
فعلى جانب العرض، سمحت تكنولوجيا استخراج النفط الصخري، والذي لم يعتد به كمصدر للإنتاج في تصحيحات السعر السابقة بفتح موارد واسعة للاستخراج والتي نظر إليها طويلا على أنها خارج حدود القدرة الممكنة، وقلبت بشكل عميق التقسيم المعتاد للعمل بين الأوبك وخارج الأوبك. وقد حدث الانخفاض الأخير في السعر في وقت كانت فيه ديناميات الطلب العالمي ومكانة النفط في مزيج الوقود تحت وطأة تغييرات درامية. فاقتصادات الدول الناشئة -والصين على رأسها-والتي كانت منذ عشر سنوات مضت تبدو وكأنها محرك لا يهدأ (حيث كان هناك نمو ثابت في الطلب بغض النظر عن السعر) قد دخلت مرحلة جديدة من التنمية منخفضة الكثافة في استخدام النفط.
والاقتصاد العالمي، الذي تم إعادة تشكيله عبر ثورة تكنولوجيا المعلومات، قد أصبح عموما أقل كثافة في استخدام الوقود. كما أن الهموم الخاصة بالتغير المناخي أعادت صياغة سياسات الطاقة. كما أن عولمة سوق الغاز العالمي، مترافقة مع الانخفاضات المنتظمة في تكلفة ومدى إتاحة الطاقة المتجددة، عرضت كلها النفط لمواجهة مستوى مرتفع من المنافسة الشديدة مع مصادر الوقود الأخرى خلال السنوات القليلة الماضية.
ومن الواضح أن الانهيار الذي نشهده حاليا في الأسعار بدأ أولا بانخفاض كبير في الطلب تحت تأثير تفشي فيروس كورونا وما ترتب عليه من إغلاقات للنشاطات الإنتاجية والحد من التنقل. ثم لحق بذلك ما ينتظر من ارتفاع في العرض بعد رفض روسيا للخطة القاضية بخفض الإنتاج بمقدار 1.5 مليون برميل إضافية. والمنطق يقول إنه إذا لم يحدث تنسيق في سياسات الإنتاج وتم اللجوء إلى سياسة بديلة تنادي بالدفاع عن الحصة السوقية وسواء كان سبب انهيار الأسعار هو انخفاض الطلب أم ارتفاع العرض أم كليهما معا، فالنتيجة ستكون أشبه ما يكون بحرب الجميع ضد الجميع؛ إذ إن سوق النفط العالمي سوق موحدة إلى حد كبير، وبالتالي فزيادة حصة أي من المنتجين ستكون بالضرورة في ظرف الأزمة هي على حساب بقية المنتجين، وبالتالي سيسعى الجميع إلى الدفاع عن حصص لهم في الأسواق، ومن الطبيعي أن من سينال الحصة الأكبر في النهاية هم المنتجون الأقل تكلفة أو الذين لديهم الاستعداد لتحمل خسارة كبيرة لفترة طويلة من الوقت، وهو أمر عبثي أن يتم الدفاع عن الحصة السوقية عند مستوى أسعار متدن بشدة وتكلفة مرتفعة نسبيا كما تفعل روسيا.
وكل ذلك التاريخ الذي عرضناه كان بكل تأكيد واضحا للجهات المسؤولة الروسية، ومع ذلك لم تأخذ العبرة من هذا التاريخ الطويل وصممت بعناد على رفض أي خفض في مستوى إنتاج أوبك+، وعادت الآن لتلوم دول الخليج العربي على الانهيار الحادث في الأسعار. فقد نقلت وكالة تاس للأنباء عن أندريه بيلوسوف النائب الأول لرئيس الوزراء الروسي قوله "إن روسيا لم تسع قط لإيقاد شرارة انخفاض في أسعار النفط، شركاؤنا العرب هم من بادروا بذلك. وأضاف أنه "حتى شركات النفط الروسية التي كانت مهتمة سابقا بأسواقها لم تتخذ موقفا يقضي بضرورة إنهاء اتفاق أوبك+".
ويبدو أن روسيا بدأت تئن من الانخفاض الشديد في الأسعار، حيث ذكر وزير المالية أن هذا الانخفاض قد يكلف الدولة هذا العام نحو 39 مليار دولار. وقال المدير التنفيذي لشركة النفط الروسية روسنفت "هل من جدوى لخفض أكبر في الإنتاج إذا كان منتجون آخرون سيزيدون إنتاجهم؟"، وهو المنطق المختل نفسه، فإذا كان الخفض من وجهة نظره غير مجد فما الذي سيؤدي إليه عدم خفض الإنتاج سوى التدهور السريع في الأسعار كما نتعلم من التجارب السابقة. وأبدى مدير روسنفت اعتقاده أن أسعار النفط العالمي قد تعود إلى 60 دولار للبرميل بنهاية 2020 إذا أزيح النفط الصخري عن السوق. وهو أيضا اعتقاد غير صحيح؛ إذ كلما زادت الأسعار ستزيد كمية الإنتاج من النفط الصخري للمرونة الكبيرة في الإنتاج التي يتميز بها هذا النفط. وعلى مدار الأعوام القليلة الماضية كانت مستويات الأسعار في أحيان كثيرة تقل عن 60 دولارا للبرميل ولم تتوقف الزيادة في الإنتاج الأمريكي من النفط الصخري، فما الذي سيوقف زيادة إنتاجه هذه المرة ويزيحه من السوق إلى الأبد؟
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة