التوقع السائد أيضا هو استمرار تركز زيادة الإنتاج في المستقبل القريب في أمريكا الشمالية
تحول الموقف الأمريكي من أسعار النفط من النقيض إلى النقيض، فبينما كانت الإدارة الأمريكية تطالب دائما وتضغط من أجل خفض أسعار النفط الخام نجد أن الإدارة تطالب الآن المنتجين الكبار في العالم بالعمل على استقرار السوق، وتريد واشنطن رفع أسعار النفط عن مستواها بالغ الانخفاض الحالي؛ لأنه يضر بالإنتاج الأمريكي، خاصة من النفط الصخري الأعلى تكلفة نسبيا في إنتاجه، وقد أجرى الرئيس ترامب اتصالين هاتفيين بكل من ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، ثم بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بهدف بحث الوضع في أسواق النفط. ووفقا للكرملين فقد عبّر الرئيسان الأمريكي والروسي في مكالمتهما عن عدم رضاهما عن مستوى الأسعار السائد في الأسواق، حيث قال المتحدث باسم الكرملين "بلا شك هناك تفاهم على أن الوضع الحالي في سوق النفط لا يصب في مصلحة بلدينا". وعقب ذلك تم إجراء مكالمة هاتفية لمناقشة الوضع في الأسواق بين وزيري الطاقة في البلدين. ودعا الرئيس الروسي يوم الأربعاء الماضي الدول المنتجة والمستهلكة للنفط على حد سواء إلى العثور على حل يمكن أن يحسن الوضع في أسواق النفط العالمية، والذي وصفه بأنه وضع صعب. وناهيك عن كون روسيا هي المسؤولة الفعلية عن هذا الوضع الصعب، برفضها تعميق خطة خفض الإنتاج التي اقترحتها منظمة الأوبك، في إطار ما يسمى بتحالف أوبك+، فإنها وفقا لخطتها في الدفاع عن حصتها السوقية كانت تهدف بالأساس إلى إقصاء جزء من الإنتاج النفطي الأمريكي خاصة من النفط الصخري بعيدا عن الأسواق، وهو ما تحاول الإدارة الأمريكية الآن الحيلولة دونه. وتتبوأ الولايات المتحدة الآن مرتبة الدولة الأولى في الإنتاج العالمي من النفط الخام، بما يزيد على 12.8 مليون برميل يوميا، منها ما يقرب من 9 ملايين برميل من النفط الصخري، وأيا كان الأمر ففورة إنتاج النفط الصخري بتأثيرها على الأسعار وباحتمالاتها في المستقبل تستدعي التوقف أمام عدة اعتبارات تتعلق بخصائص ما يسمى بالموارد غير التقليدية، لا سيما من النفط الصخري.
التوقع السائد أيضا هو استمرار تركز زيادة الإنتاج في المستقبل القريب في أمريكا الشمالية، وبينما يشير العديد من العاملين في الصناعة إلى أن نمو إنتاج النفط الصخري في الولايات المتحدة سيظل إيجابيا، ولكن سرعة هذا النمو سوف تقل بعد عام 2020
الاعتبار الأول المهم هو أن موارد النفط الصخري موزعة على نحو واسع في عدد من مناطق العالم، وعلى الرغم من أن التقدير لا يزال أولي إلا أن بعض الإحصاءات المتوفرة تشير إلى وجود موارد صخرية (نفط وغاز) في آسيا، وأستراليا، وأفريقيا، وأمريكا الشمالية، وأوروبا، وأوراسيا، وهي أقرب لمراكز الاستهلاك من النفط التقليدي، ويشير البعض إلى أن هناك احتياطيات كبيرة في بعض البلدان مثل الصين والأرجنتين.
ومع ذلك فالتوقع السائد أيضا هو استمرار تركز زيادة الإنتاج في المستقبل القريب في أمريكا الشمالية، وبينما يشير العديد من العاملين في الصناعة إلى أن نمو إنتاج النفط الصخري في الولايات المتحدة سيظل إيجابيا، ولكن سرعة هذا النمو سوف تقل بعد عام 2020، وبمرور الوقت ستدخل بلدان أخرى في الصورة بشكل واضح، مثل الصين والأرجنتين وكولومبيا، ولكن مساهماتها مجتمعة لن تزداد بالسرعة الكافية لإبطال أثر نمط الحركة بطيئة النمو بعد عام 2020 في الولايات المتحدة على الإنتاج.
الاعتبار الثاني أنه وعلى خلاف النفط التقليدي تعد الآبار الصخرية قصيرة العمر للغاية، ففي بعض مناطق الإنتاج في الولايات المتحدة يتدهور معدل إنتاج البئر الذي يبدأ بضخ 1000 برميل في اليوم إلى نحو 280 برميلا في اليوم فقط مع بداية العام الثاني للضخ، أي يحدث انخفاض في كمية الإنتاج بنسبة 72%، ومع بداية العام الثالث ستكون نصف احتياطيات هذا البئر قد تم استنزافها، وينخفض الإنتاج إلى مجرد تقاطر هزيل للنفط.
والاعتبار الثالث وهو ما يمكن أن يمثل أهم الخصائص الإيجابية المتعلقة بالنفط الصخري بالنسبة للدول المستهلكة الكبرى، خاصة الولايات المتحدة، في المرونة؛ إذ إنه بمجرد انخفاض أسعار النفط عن التكلفة الجارية فإن الإنتاج من النفط الصخري يمكن أن يتم تعليقه بسرعة، ثم يتم استئنافه مجددا بسرعة أيضا حينما تتخطى الأسعار عتبة محددة، أو على الأقل حينما يرى المنتجون أن الأسعار المستقبلية مبشرة.
وهذا التوسع السريع في الإنتاج يعمل نظريا على وضع سقف ناعم على أسعار النفط، ويساعد على ضمان أن الأسعار لن تشتط مرة أخرى، طالما أن التقلبات في الطلب تدريجية ولا تتجاوز حجم الاحتياطيات الصخرية المستعدة للتحول بسرعة نحو الإنتاج، لذلك يرى البعض أنه بات من المحتمل التغلب على الدورات الطويلة الأجل التقليدية من الازدهار والإفلاس التي ميزت أسواق النفط في الماضي، لكن هذا رهن بالطبع بالإنتاج العالمي ككل من النفط، ومواقف المنتجين العالميين الكبار، فكما رأينا قد تتهاوى الأسعار إلى مستويات لم تكن متخيلة على الإطلاق في غضون أيام قليلة، والعام الحالي يقدم الدليل على ذلك، فبعد أن كانت توقعات العديد من الجهات قبل بداية العام هو تحقق سعر يتراوح بين 64 إلى 70 دولارا لبرميل برنت الخام نجد أن هذا السعر قد تدهور بشدة خلال شهر مارس الماضي، نتيجة تراخٍ شديد في الطلب بسبب تفشي فيروس كورونا، وأيضا بسبب رفض روسيا خطة تعميق خفض الإنتاج، وسعيها للحفاظ على الحصة السوقية؛ حيث بات سعر برميل خام برنت الآن يقل عن 25 دولارا.
وتجدر الإشارة إلى أن فورة إنتاج النفط الصخري الأمريكي الكثيف رأس المال اعتمدت على كون تكلفة رأس المال منخفضة بعد تفجر الأزمة المالية والاقتصادية العالمية في عام 2008، إضافة إلى الارتفاع الكبير في سعر النفط الخام؛ حيث كان سعر برميل برنت يزيد على 110 دولارات (قبل حدوث انخفاض الأسعار في عام 2014). وقد أدت السياسة النقدية لنظام الاحتياط الفيدرالي (البنك المركزي الأمريكي) خلال السنوات الأخيرة بخفض سعر الفائدة إلى توفر رأس المال الرخيص لتمويل فورة الحفر للنفط الصخري، علاوة على ذلك فقد حدث تطور تكنولوجي سريع نسبيا عمل على خفض تكلفة إنتاج النفط الصخري خلال السنوات القليلة الماضية؛ حيث أصبحت الكثير من التكوينات مربحة حتى في ظل التدهور الذي شهدته أسعار النفط منذ النصف الثاني من عام 2014، ويمكن القول إنه فيما يتعلق بالنفط الصخري نجد أن مدى التفاوت في التكلفة كبير بين تكوين وآخر، لكن في كل الأحوال لن يدخل في مرحلة الإنتاج سوى الحقول التي يمكنها تحقيق ربحية للمنتجين، وتقع تكلفة أغلب التكوينات في مدى تتراوح فيه تكلفة إنتاج البرميل بين نحو 25 دولارا و50 دولارا، لذا فوجود أسعار تقل عن 30 دولارا في الأسواق كما هو حادث حاليا ستعني تحقيق الكثير من التكوينات الصخرية الخسارة، ومن ثم قد يتم تعليق الإنتاج منها إذا لم ترتفع الأسعار في السوق العالمية، وهذا هو سبب التحول الراهن في موقف الإدارة الأمريكية، بسعيها الحثيث للتباحث حول كيفية العمل على رفع مستوى الأسعار.
ولا جدال أن الإنتاج الأمريكي حقق العديد من الأهداف للولايات المتحدة، فزيادة الإنتاج التي قادتها تكنولوجيات النفط الصخري، وإلى حد أقل الحفر في المياه العميقة، هي نعمة واضحة للاقتصاد الأمريكي، حيث قللت من العجز التجاري، ورفعت معدل التوظيف، ودعمت من النمو الاقتصادي الكلي، وعلاوة على ذلك فقد انعكست زيادة الإنتاج الأمريكي في شكل انخفاض حاد في واردات النفط الأمريكية، وأدت أيضا إلى زيادة العرض العالمي، ومارست ضغوطا نزولية على أسعار البترول العالمية، كما كان واضحا في انخفاض الأسعار منذ النصف الثاني من عام 2014، ورغم الاستقلال النسبي الذي وفره إنتاج النفط الصخري للولايات المتحدة، لكن رغم ذلك يشير البعض إلى أنه يظل بوسع أي اضطراب في تدفق البترول من المنتجين الآخرين أن يؤدي إلى أسعار أعلى، والسبب يرجع إلى أن أسعار النفط تتحدد عن طريق العرض والطلب العالمي؛ إذ ستظل الولايات المتحدة محكومة بالسعر العالمي، ويمكن لأي اضطرابات في الإمدادات من الشرق الأوسط أو أي من المنتجين الآخرين الكبار أن تدفع هذا السعر العالمي لأعلى فورا، أو الوضع العكسي الذي نعيشه حاليا، وهو تأثر مصالح الولايات المتحدة بالتدهور الشديد في أسعار النفط، ولذا بات من المصلحة الأمريكية تحقيق استقرار في الأسواق، تتيح أسعارا مناسبة لاستمرار الإنتاج من تكوينات النفط الصخري.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة