ليس من المتوقع أن تتراجع روسيا عن سياساتها في شبه جزيرة القرم أو أوكرانيا أو أوروبا الشرقية أو الشرق الأوسط
إذا كان سقوط حائط برلين في نوفمبر 1989 يمثل نهاية رمزية لحقبة من العلاقات الدولية في مرحلة الحرب الباردة، التي شهدت أحداثاً جساماً لأربعة عقود من الزمن لم ُتستثن منها بقعة ما على سطح الأرض، فمجيء الرئيس فلاديمير بوتن إلى سدة الحكم في روسيا في مايو 2000 يمثل بداية حقيقية لحقبة جديدة من هذه العلاقات، لا يستبعد فيها نشوب حرب كبيرة بين الولايات المتحدة والصين وروسيا.
فمع أن أغلب الصراعات التي نشهدها اليوم تجري داخل الدول وليس بينها لأسباب لا مجال للتطرق إلى تفاصيلها، ومع أن الحديث يدور حول تزايد القلق من تعاظم مخاطر الإرهاب عالمياً فإن الصراع الأكبر الذي عاد إلى الظهور بصعود الدور الروسي والصيني، وتعزيز قدراتهما العسكرية واستراتيجياتهما في توسيع نفوذهما إقليمياً ودولياً هو الخطر الحقيقي، الذي يدعو للقلق على المستوى الدولي.
غادرت إدارة الرئيس أوباما سدة الحكم تاركة العلاقات الأميركية- الروسية في أسوأ أوضاعها، إذ لم يتوافق الطرفان على أي شأن سياسي أو أمني لتترك للرئيس ترامب وطاقمه مهمة التعامل مع تداعيات هذه العلاقات المرشحة للمزيد من التشنج، فعلى الرغم من أن الرئيس الجديد يرغب حسب تصريحاته، التي لم يشاركه في فحواها أحد من الزعماء الجمهوريين، بإقامة علاقات تعاون مع موسكو فإن من المشكوك فيه أن ينجح في ذلك.
إذ ليس من المتوقع أن تتراجع روسيا عن سياساتها في شبه جزيرة القرم أو أوكرانيا أو أوروبا الشرقية أو الشرق الأوسط، فقد برهنت بزعامة بوتن على صلابة في المواقف وجرأة لا متناهية في السعي نحو تحقيق أهدافها، فحين قررت أن تعود كونها قوة عظمى وضعت نصب عينيها أن السبيل الوحيد نحو تحقيق ذلك هو انتهاج سياسات معارضة للسياسات الأميركية.
كما أن روسيا حليفة لكل من الصين وإيران المستهدفتين في أجندة الرئيس ترامب، ففي خطة السبع نقاط التي وضعها لإعادة بناء الاقتصاد الأميركي هناك ثلاثة منها تُستهدف الصين فيها. أما بالنسبة لإيران فقد سبق له أن عبر عن مواقفه غير الودية اتجاهها معتبراً إياها الشريك الأقرب لكوريا الشمالية وواصفاً الاتفاقية النووية التي أبرمت معها بأنها الأسوأ.
في سياق هذه الأجواء المتوترة مع روسيا نشرت صحيفة الإندبندت البريطانية في السابع من أكتوبر المنصرم بأن البنتاغون استضاف حلقة نقاش أبدى فيها عسكريون كبار قناعاتهم بأن احتمالات الحرب بين الولايات المتحدة وروسيا عالية جداً، وقد ورد على لسان نائب رئيس الأركان اللفتنانت جنرال جوزيف أندرسون «يوجد تهديد حقيقي ضد الولايات المتحدة من جانب «دولة قومية حديثة» تتصرف بعدوانية في ظروف عسكرة التنافس» في إشارة إلى روسيا.
أما على مستوى أجواء التوتر مع الصين في بحرها الجنوبي، فالرئيس ترامب يضيف مصدراً جديداً لتأجيجها حين يتحدث عن أن إدارته لن تكتفي بالتعامل مع صين واحدة، فقد سبق له أن أغضب الصين بمحادثته الهاتفية مع رئيسة تايوان.
مع هذا التردي في العلاقات أصدر الرئيس الروسي في وقت سابق قرارا بالانسحاب من الاتفاقية التي عقدت مع الولايات المتحدة حول معالجة البلوتونيوم، متهماً إياها باتخاذ إجراءات غير ودية نحو بلاده، ومن جانبه يعكف البنتاغون على وضع الخطط لصيانة وتحديث ترسانته النووية بتكلفة باهظة قدرت بنحو تريليون دولار.
العلاقة بين ما هو «مدني» وما هو «عسكري» في رسم الاستراتيجيات أمر على درجة كبيرة من الأهمية، لأنه أحد أبرز محاور الأمن القومي للدولة. عوامل عديدة تستند إليها قوة الدولة: طبيعية وجغرافية واقتصادية ونفسية وعسكرية ومجتمعية وسياسية، تتعلق بطبيعة نظام الحكم إلا أن العامل الأبرز هو العامل العسكري الذي مكن بعض الدول في الماضي أن تصبح إمبراطوريات واسعة الأطراف يمتد نفوذها إلى قارات عدة.
فالقوة العسكرية هي ما يؤهل الدولة لتحقيق غاياتها سواء باستخدامها أو التهديد بها، خيار تملك القوة العسكرية كان الخيار السوفييتي للبقاء منذ الأيام الأولى لثورة أكتوبر عام 1917 على الرغم من الأضرار التي لحقت بالقطاعات المدنية ومنها الاقتصاد جراء ذلك.
كان هذا خيار الرئيس بوتين أيضاً منذ صعوده لسدة الحكم، لأنه على قناعة بأن قوة الدولة عسكرياً وليس اقتصادياً هو العامل الحاسم لحضورها وإسهامها في صنع القرارات على المستويين الإقليمي والدولي بغض النظر عن كون هذا الحضور سلبياً أو إيجابياً، فاقتصاد روسيا ليس في أحسن حالاته.
فقد احتلت الموقع الثالث عشر بين دول العالم في قوتها الاقتصادية، وفق حجم الناتج الإجمالي المحلي، وهو أهم المؤشرات عن حالة الاقتصاد، حسب تقرير البنك الدولي لعام 2015 متخلفة عن دول صغيرة مثل كوريا الجنوبية، التي احتلت المركز الحادي عشر، ناهيك عن تخلفها عن دول أخرى منها اليابان وألمانيا وبريطانيا وفرنسا والهند.
وإذا اعتمدنا الأرقام الواردة في التقرير المذكور نجد أن الناتج الإجمالي المحلي للصين التي احتلت الموقع الثاني يزيد على ثمانية أضعاف نظيره الروسي، أما على المستوى السياسي فدور الصين في السياسة الدولية غير ملموس إلا في النطاق القريب منها خاصة في بحرها الجنوبي على العكس من دور روسيا، الذي بدأ يمتد منذ الانكماش بنهاية الحرب الباردة، بسبب امتلاكها القوة العسكرية.
* نقلا عن البيان
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة