صراع نخب روسيا.. "مكائد" بميزان التاريخ
فلاديمير بوتين، الرجل القوي الذي أعاد إدخال روسيا إلى نادي العظماء، يتحدث عن "خيانة" و"طعنة في الظهر".
لم يكن أحد ليتخيل أن يتعرض الرئيس القوي لمثل هذا السيناريو، حتى إن قائد مجموعة فاغنر العسكرية، يفغيني بريغوجين، نفسه نفى أواخر مايو/ أيار الماضي مزاعم "تخطيطه لانقلاب" عسكري ضد بوتين، مؤكدا أن مجموعته تتمتع بعلاقة جيدة مع الكرملين.
لكن النوايا الطيبة لفاغنر لم تستمر طويلا في ظل صراع بدأت شرارته منذ فترة، خصوصا بالتزامن مع معارك باخموت الأوكرانية، قبل أن يطفو على السطح في شكل اتهامات مباشرة ومن ثم تمرد مسلح.
عصيان يقلب إحداثيات الوضع في روسيا رأسا على عقب، ويضع البلد الذي يخوض حربا في أوكرانيا على فوهة المجهول، ويدفع نحو سبر أغوار التاريخ لرصد صراعات النخب الروسية.
ويرى سيرجي رادشينكو وهو أستاذ بمعهد "ويلسون شميت" التابع لـ"معهد جامعة جون هوبكنز للدراسات الدولية المتقدمة"، في تقرير عن تاريخ الانقلابات في روسيا، أنها كانت شبه نادرة خلال حقبة الاتحاد السوفياتي، كما لم تشهد موسكو أي محاولات انقلاب منذ انهياره.
ستالين
وفي تحليله الذي نشرته مجلة فورين أفيرز الأمريكية، كتب رادشينكو يقول إنه خلال فترة حكم جوزيف ستالين، لم يستثنِ القائد الدموي من شدته حتى كبار المسؤولين الشيوعيين.
ومن بين 139 عضواً ومرشحاً للعضوية في اللجنة المركزية التابعة للاتحاد السوفيتي الذين تم انتخابهم في مؤتمر الحزب عام 1934، تم اعتقال 98 في ما بعد وتعرضوا لإطلاق النار بناءً على أوامر ستالين.
واستهدف الزعيم السوفياتي آنذاك أقرب رفاقه، وأذلهم أو جعلهم ينقلبون على بعضهم.
ويتذكر خروتشوف، الذي أصبح خليفته في نهاية المطاف، باشمئزاز أنه كان يعتقد أنه سيأتي يوم قريب "يقضي فيه ستالين حاجته أمامنا، ثم يقول إن هذا كان في مصلحة الوطن الأم، ولو حدث أمر شائن مثل هذا، ما كان أحد ليعير الأمر اهتماماً".
ويعتبر رادشينكو أن "الأمر كان يبدو مستحيلا أن تتحمل النخبة السوفياتية ذلك الطاغية المتعطش للدماء، لكنها فعلت. وربما كان ذلك جزئياً نتيجة تقدير إنجازات ستالين باعتباره ثورياً مخضرماً وقائد حرب".
واستدرك: "ولكن من المؤكد أيضاً أنه كان بسبب الخوف على حياتهم. وكان إبقاؤه في السلطة أمراً خطيراً، ولكن الأخطر منه كان التخطيط لانقلاب عليه إذ كان الفشل آنذاك يعني الموت المحتم".
الإطاحة ببيريا
عندما مات ستالين، نشأ صراع على السلطة، وكانت الضحية الأولى أحد أتباعه الأمناء، وزير الداخلية لافرنتي بيريا، الذي كان زملاؤه يخافونه ويحتقرونه، إذ كان يسيطر على الأجهزة الأمنية بقدراتها الكبيرة في المراقبة وضبط النظام، وما يعرف عنها من وحشية مطلقة.
جمع بيريا معلومات تمس سمعة القادة الكبار الآخرين، ومن ثم كان التخلص منه أمرا موضع شبه اتفاق.
وكانت الإطاحة ببيريا فوضوية وسرية للغاية، وبحسب معظم الروايات، لعب نيكيتا خروتشوف ورئيس الوزراء جورجي مالينكوف دورين رئيسين في ذلك.
وخلال مناقشة في المجلس السوفياتي الأعلى، أثار خروتشوف موضوع الخطايا التي ارتكبها بيريا، بينما ضغط مالينكوف على زر سري دعا الجيش إلى التدخل واعتقال بيريا.
وقد حوكم لاحقاً أمام محكمة كنجر حيث لم يسمح له بالدفاع عن نفسه ربما خوفاً من أن يقوم بتوريط قادة كبار آخرين في الجرائم الشنيعة التي ارتكبت في عهد ستالين، ثم أعدم.
وفي السنوات اللاحقة، همش خروتشوف مالينكوف إلى حد كبير رغم أن الأخير كان يتمتع بموقع ومؤهلات سياسة أقوى من خروتشوف.
وفي اجتماع عقد في يونيو /حزيران 1957، وجهت مجموعة من كبار الشخصيات الساخطين في المجلس السوفيتي الأعلى تهمة لخروتشوف بأنه يملك نزعة ديكتاتورية وحاولوا إطاحته.
وجاءت نتيجة التصويت في المجلس السوفياتي الأعلى سبعة أصوات ضد خروتشوف وأربعة لصالحه، وكاد يفقد السلطة، لكنه تمكن من كسب دعم جوكوف، وزير الدفاع آنذاك، ورئيس الـ"كي جي بي" إيفان سيروف، وساعدا في حشد مؤيديه في اللجنة المركزية، الذين صوتوا لصالح إلغاء المجلس السوفيتي الأعلى.
وبعد عدة أشهر، قام خروتشوف بإزاحة جوكوف من السلطة.
سقوط خروتشوف
ظل خروتشوف في القمة لمدة سبع سنوات أخرى قبل أن يسقط أخيراً في انقلاب جرى بالقصر في أكتوبر/ تشرين الأول 1964.
وكتب رادشينكو يقول إن من قاد المؤامرة هو ليونيد بريجنيف، أحد أتباع خروتشوف المحميين، والذي استغل الإحباط المتزايد في صفوف الحزب والحكومة من القائد السوفيتي.
وعمل بريجنيف عن كثب مع ألكسندر شلبين، وهو أيضاً من أتباع خروتشوف المحميين والرئيس السابق لـ"كي جي بي"، وأخرون حيث استغلوا جميعاً قضاء خروتشوف إجازة في أبخازيا عندما تم استدعاؤه على وجه السرعة إلى موسكو.
وحينها، قدم له زملاؤه في المجلس السوفياتي الأعلى قائمة من الشكاوى ودعوه إلى الاستقالة. لكن، هذه المرة، أبقى المتآمرون بقية النخبة تحت السيطرة.
وأكدت الجلسة المكتملة للحزب، التي تمت الدعوة إليها على عجل، أن خروتشوف سيتقاعد "لأسباب صحية".
وبريجنيف، الذي كان ينظر إليه في البداية على أنه شخصية توفيقية، عزز تدريجاً قبضته على السلطة من خلال إبعاد المنافسين عن السلطة، وأولهم معاونه فى الإطاحة بخروتشوف.
ووفقا لتحليل رادشينكو، فإن مغامرات خروتشوف السيئة خلال أزمة الصواريخ الكوبية وشجاره مع الصين، كانت من بين الأسباب التي أطاحته.
لكن السياسة الخارجية، مع ذلك، كانت مجال تخصص للقائد الأعلى بشكل حصري وهو الوحيد الذي يمتلك الخبرة والحكم اللازمين لاتخاذ القرارات فيه.
ومن ثم، فإن السياسة الخارجية كانت دوما في مرتبة ثانوية مقارنة بالأولويات المحلية، وكانت الانقلابات تدور بالأساس حول العلاقات الشخصية في كواليس السلطة، وكان جوهرها الطموحات المكشوفة وطعن الخصوم في الظهر.
مواجهات
قال رادشينكو إن أقرب مثال على الانقلاب بالمعنى الدارج كان إبان المواجهة بين الرئيس الروسي السابق بوريس يلتسين ومجلس السوفييت الأعلى في عام 1993.
هذه المواجهة لم تنته إلا بعد أن أطلقت الدبابات الروسية النار على مبنى البرلمان.
لكن رادشينكو يعتقد أنه حتى هذه المرة لا ينطبق عليها مفهوم الإنقلاب بشكل كامل لأنها كانت مواجهة علنية بين سلطتين تنفيذية تشريعية، غذتها أجواء منفتحة وديمقراطية نسبياً فى عهد يلتسين.
أما فيما يتعلق بالقادة العسكريين أو الأجهزة الأمنية، فقد بينت الوقائع أنهم فشلوا في الاستفادة من المؤامرة، وكان دورهم يقتصر على مساعدة القادة على تولي السلطة.
فمثلا، بعد الإطاحة ببيريا، أبقى كبار قادة الحزب الجيش وجهاز "كي جي بي" على مسافة منهم، ولم يتحول الاتحاد السوفيتي أبدا إلى مجلس عسكري.
وعندما حاول الجيش والـ"كي جي بي" قيادة انقلاب، كما فعلا في عام 1991 ضد ميخائيل جورباتشوف، ظهر بشكل جلي عدم أهليتهما على الإطلاق وهزما على الفور.
ومن بين الملاحظات اللافتة فى تحليل رادشينكو، أنه لم يكن هناك أي أثر لتدخل أجنبي في أي من صراعات السلطة تلك، بل إن الاقتتال الداخلي في الكرملين كان بعيدا عن الأيادي الأجنبية.
وفي بعض الأحيان، تكون المكائد بلا فائدة، ويعيش القائد حياته في السلطة ويموت لأسباب طبيعية، وهو ما قال رادشينكو إنه السيناريو الذي يفضله بوتين.