"لا أعرف متى سيرى والدي الأوكراني أمي الروسية"..
معاناة "تانيا ميلز" تختزل مأساة عشرات الآلاف من الناس ذوي ثنائية الارتباط العائلي بين الروس والأوكرانيين.
تنام "ميلز"، 24 عاما، على هواجس القلق مما قد يحمله إليها غدٌ مبهم عن مجريات الحرب وآثارها.. يتنازعها هواها الروسي حنينا إلى أمها، وهواها الأوكراني شوقا إلى أبيها.
تقول: "تغيّر كل شيء، كل يوم أشعر بالقلق حقا، كل يوم أتوقع أن أرى رسالة من شخص يخبرني أن أمرا أسوأ قد حدث".. بهذه الكلمات تلخص "تانيا" صراعها الداخلي واضطراب هواجسها وخشيتها من اللحظة الآتية بحمولة صادمة من ديار أبيها في كييف، أو من ضواحي موسكو حيث تقيم والدتها.
إقامتها في لندن وعملها لم يقطعا أواصر ارتباطها بموروث أسرتها وتقاليد مجتمعها.. نشأت تانيا في موسكو، لكنها تعيش في لندن منذ عام 2020.. تقول: "على الرغم من جواز سفري الروسي، فإنني لا أستطيع أن أصف نفسي أنني روسية أو أوكرانية".
في الرابع والعشرين من فبراير/شباط 2022، كان من المقرر أن تسافر إلى كييف لشراء فستان زفافها ورؤية والدها الأوكراني، لكن ذلك لم يحدث بسبب اندلاع الحرب.
"تانيا ميلز" ليست الصورة الوحيدة المنعكسة لهذه التوأمة بين الإنسان الروسي والأوكراني، ولا هي الحالة الفريدة المعبرة عن مفاعيل الحرب على الطرفين، ثمة كثير من الحكايات، التي ينسجها أفراد البيت الواحد ممن فرضت الحرب عليهم الانقسام، غير سرديات أولئك الهاربين من جحيمها إلى ما بعد حدود أوطانهم.
أظهرت دراسة استقصائية نُشرت في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2022 من قبل مجموعة بحث روسية مستقلة، أن الحرب أدت إلى انقسام واضح في وجهات النظر بين الأجيال داخل روسيا ذاتها، إذ قال 75% من المشاركين من الذين تبلغ أعمارهم 40 عاما فأكثر، إنهم يؤيدون الحرب، مقارنة بـ62% من الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و24 عاما، غير مؤيدين لها.
هذه الخلافات في وجهات النظر بين الفئات العمرية المختلفة أصبحت طافية على السطح لدى العديد من العائلات الروسية، وفقا لما يرصده فيلم وثائقي حديث من إنتاج "بي بي سي" للمخرجة الروسية أناستاسيا بوبوفا، التي ترى أن نتائج الدراسة الاستقصائية تتوافق مع تصورها الخاص، الذي كوَّنته خلال تجولها في أنحاء بلادها من أجل تصوير الفيلم الوثائقي المذكور، وتعترف أن الخلافات وجدت طريقها إلى عائلتها أيضا.
يستعرض الفيلم قصة شاب روسي اسمه "فانيا"، 23 عاما، الابن الأصغر في العائلة والأخ الوحيد لثلاث شقيقات، التحق بالجيش وكان ضمن تشكيلات القوات البحرية المتمركزة في مدينة سيفاستوبول في شبه جزيرة القرم، وقُتل قرب مصنع آزوفستال للصلب في ماريوبول في 15 مارس/آذار 2022، وكان مقتله سببا في بروز التباين الشديد في وجهات النظر بشأن الحرب بين شقيقته في الفيلم، الممثلة الروسية أوليانا، وبين والدها بوريس.
في سياق الفيلم، تصف "أوليانا" شقيقها بأنه "كان فتى ذهبيا ملفتا للنظر". يمضي الفيلم في سرد صراع الأجيال ويكشف الهوة بين ثقافاتها، بين والد عاش عدة عقود في كنف الاتحاد السوفييتي السابق ويعتبر الحرب الروسية الأوكرانية مقدسة من أجل الدفاع عن الوطن، وأن ولده قضى دفاعا عن بلاده، وبين ابنته المعبرة بثقافتها المعاصرة عن قناعة شريحة واسعة من الأجيال الروسية الجديدة بأن "الحرب عبث".
تقول الممثلة، التي يبلغ عمرها 37 عاما وهي تودع أخاها الشاب فانيا، الذي عاش مولعا بالموسيقى والمسرح: "قالوا إنه مات بطلا، سألتُ نفسي ماذا يعني الموتُ بطلا؟ إنه عبث. لا أريد أن يكون أخي بطلا ميتا...".
في الحديث عن أوكرانيا وروسيا، يمتزج الشخصي بالإنساني بالاجتماعي، ويتداخل الجغرافي بالتاريخي بالحضاري، ولا يعتري مثلَ هذه العلاقات تفكُّكٌ أو تناحرٌ إلا وينعكس وبالا على الإنسان في الجانبين.
طوت الحرب الروسية الأوكرانية عامها الأول بعنوان قد يكون الأكثر تعبيرا عن مجرياتها، "سجال ميداني وسياسي"، دون اختراق جوهري من جانب أي طرف على حساب الآخر، ويبدو أن العنوان ذاته مرشح ليكون صالحا لفترة زمنية على المدى المنظور نتيجة عدة معطيات أفرزتها شهور الحرب الاثنا عشر عسكريا وسياسيا، بعضها مباشرة مرتبطة بالطرفين المتنازعين، وبعضها الآخر يندرج ضمن استراتيجيات الصراع الواسع بين روسيا ودول الناتو، ويمكن تصنيفها بعيدة المدى وغير مباشرة.
ساحة المعارك في الحرب الروسية الأوكرانية لها منطقها وأدواتها، فيها خِيار واحد لدى المتقاتِلَيْن المتقابلَيْن على جانبي الجبهة، أبقى أو أفنى، وهنا تتجسد الشخصانية عبر سلوك الفرد، وتنتهي المواجهة ببقاء أحدهما، فينتصر الفرد ويخسر الإنسان.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة