الأشخاص الذين هم على دراية كبرى بمحمد صلاح، يدركون جيدا أن الرجل غير مؤدلج سياسيا، ولا منخرط دوجمائيا، وإنما هو مواطن صالح.
يمكن للمرء أن يتفهم تسرب فيروس "الإسلاموفوبيا" البغيضة إلى العاملين والفاعلين في حقول السياسة والفكر، في مجالات الأمن والاستخبارات ومطاردة الإرهاب ومتابعة الإرهابيين، كل هذا مبرر ومفهوم.
لن تكون مسيرة التسامح والتصالح سهلة أو مريحة، ولا بد أن يكون الطريق مليئا بالعقبات، لكن النوايا الحسنة الصالحة يمكنها أن تنقل جبال الكراهية والأحادية الذهنية تحديدا، وتلقي بها في اليم وتذيبها في بحر النسيان، بحيث لا يتبقى في الأرض إلا ما ينفع الناس.
غير أن ما لا يمكن استيعابه، هو أن تمضي دروب الكراهية إلى ملاعب الرياضة، تلك التي ترقي الأمم والشعوب، وتخلق ما بينها رابطا إنسانيا ووجدانيا، في إطار التعارف الثري، أما أن تصبح رياضة برسم خطابات الكراهية، وتمر بدروب رهاب الإسلام، فهذا شيء مستحدث ومخيف.
وتعد ملاعب أوروبا وإنجلترا معروفة بنوع خاص من العنف الناجم عن التعصب الكروي، لكن رويدا رويدا نكاد نلمس هواء عنصريا ملوثا، لا ينفك يضحى مرتكنا إلى منطلقات دينية، ويتخفى تحت شعارات معروفة ومفضوحة من القاصي والداني.
"صلاح مفجر إرهابي" يا للهول! إنه محمد صلاح النجم الكروي المصري المعروف بأخلاقه النبيلة، وهو عينه الذي تغنت له جماهير بريطانيا العاشقة للكرة المستديرة، ساحرة القلوب والعقول: "لو أحرزت أهدافا أكثر، فلسوف ننتمي إلى الإسلام، وفي المسجد نجلس" أي ازدواج أخلاقي قاتل تعيشه بعض جماعات اليمين الأوروبي التي أمست متشددة وأصبحت متطرفة؟
أن يرفع بعض من مشجعي نادي تشيلسي عقيرتهم في مواجهة النجم المصري الأصل والمسلم، رأس حربة فريق ليفربول، بهتافات تعمق المناخات الطائفية، فإن ذلك يدلل على عمق الأزمة التي تعيشها قطاعات أوروبية عديدة، ويدفع إلى التساؤل كيف بلغ الحال بأوروبا قبلة التنوير الإنساني، والتي قادت العالم في عصور النهضة إلى رسم معالم وملامح واضحة بين الحق الإنساني والعبادة والإيمان، وبين التعاطي مع الفرد في سياق المواطنة، تلك التي تعتمد في أركانها على زوايا ثلاث: "الحرية، الإخاء، المساواة"؟
يدهش المرء أن الذين هاجموا صلاح واتهموه باتهامات جوفاء، هم مشجعو فريق يحتوي ضمن لاعبيه على لاعب مسلم من أصل مالي "نغولو كانتي"، ذلك المشهور بأمانته التي لا توصف، وقد أشادت الصحافة الإنجليزية به، لا سيما بعد أن رفض التلاعب الضريبي الذي يمكن أن يوفر له مليون يورو سنويا، حيث قام بفتح حساب بنكي خارج إنجلترا، وذكر الأوروبيين بأهمية العطاء.
إن الأشخاص الذين هم على دراية كبرى بمحمد صلاح، يدركون جيدا أن الرجل غير مؤدلج سياسيا، ولا منخرط دوجمائيا، وإنما هو مواطن صالح، ولاعب ماهر، وصاحب أيادي بيضاء، وفاعل خير كبير في بلاده وبلاد الغير.
يمكن المجادلة بأن أولئك الذين يكرهون صلاح لا يتجاوزون أصابع اليد الواحدة، ولكن القضية تعد أعمق من مجرد لافتات ترفع، أو مشاهد يتم بثها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، إنه تسونامي مخيف يضرب أوروبا مؤخرا، ويفسره البعض بأنه ارتدادات لعمليات إرهابي القاعدة وداعش، ومن لف لفهم، ويمضي آخرون إلى تفسيره بأنه حالة من الذعر القومي التي أصابت البعض، خوفا على مكاسبهم الاقتصادية، التي يدعون بأنها سوف تتأثر من جراء مشاركة اللاجئين والمهاجرين فيها. أما بالنسبة لأولئك ذوي الفكر الإرهابي فهم يرون أن اللاجئين والمهاجرين سيقلبون الموازين الديموغرافية التقليدية لأوروبا، ناهيك عن تعمدهم تغيير المشهد الثقافي والإنساني، بل الديني المسيحي الأوروبي.
لكن المؤكد أن الفضاءات والآفاق الإعلامية والاجتماعية الأوروبية، باتت وفي قطاع منها ممتلئة برياح مسمومة، أسهم في دفعها بعض الذين يودون لو عاد التاريخ إلى الوراء، ولهذا فإنهم يستدعون رموزا بعينها من أضابير الموت، كما فعل إرهابي نيوزيلندا، ذاك الذي تأثر بجماعات كراهية في الداخل النمساوي. ولهذا لم يكن غريبا أو مثيرا أن يسعى إلى إيقاظ مشاعر أنصاره ببث الحياة في "شارل مارتل"، ومعركة بلاط الشهداء، وساعتها، يضحى من الطبيعي جدا أن ترتفع رايات سر الإثم، وتتوارى علامات سر البعث .
لكن الحقيقة المؤلمة، هي أننا لسنا بمواجهة حادثة، بل كارثة، فالحادثة يمكن تفهمها لو كانت جنائية، ولكنها فكرية ومع الأسف، والأفكار لها أجنحة، سواء كانت أفكارا إيجابية تبني وتعمر، أو سلبية تهدر وتدمر، والحادثة موصولة بمكان وزمان محددين بدرجة أو بأخرى، فيما الكارثة اليوم أن الكراهية وخطابها باتا أداة تتخفى في العالم الرقمي، وتنتقل عبر الأثير، أما عن الدور الذي تلعبه وسائل التواصل الاجتماعي، فقد أصبح هو الحكم والجلاد، وما أدراك بفتنة الإنترنت.
لن تكون مسيرة التسامح والتصالح سهلة أو مريحة، ولا بد أن يكون الطريق مليئا بالعقبات، لكن النوايا الحسنة الصالحة، يمكنها أن تنقل جبال الكراهية والأحادية الذهنية تحديدا، وتلقي بها في اليم وتذيبها في بحر النسيان، بحيث لا يتبقى في الأرض إلا ما ينفع الناس.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة