أن ترسل صاروخاً باليستياً إلى الرياض لم يعد محل أناة ولا صبرٍ، بل محل ردٍ ومعاقبة.
في اللحظات المفصلية في تطور الدول والمجتمعات، وفي التغيرات الكبرى في موازين القوى، لا تحدث الأمور فجأة، بل تحدث ضمن سياقٍ قابلٍ للقراءة والفهم، وإن كان مزاحماً على الدوام بأحداثٍ أخرى تشوش المشهد العام، وتمنع من التركيز والتفريق بين المهم والأهم.
تم قص كل أجنحة النظام الإيراني، عبر خطط محكمة وتحالفاتٍ قوية، وبناء توافقات دولية وإقليمية، وعبر تحالفٍ عربي لمواجهة الحوثي في اليمن، وتحالفٍ مسلمٍ لمحاربة الإرهاب، والمشاركة الفاعلة في تحالفٍ دولي لمحاربة «داعش»، وقد سقط الخائن الشقيق في قطر تحت نير المقاطعة الرباعية، فاعتدلت الأمور شيئاً فشيئاً.
في السعودية، معركتان تعتملان في رحم الزمن منذ ثلاث سنواتٍ تقريباً، معركة داخلية ضد الفساد، الذي ينخر في أساس الدول وفي بنيانها، ومعركة مع الخصوم الإقليميين، دون نسيان ما مضى من إنجازات، أو تضخيم ما سلف من سلبيات، ولكنهما معركتا المستقبل والتطوير والتجديد.
في المعركة الداخلية، معركة التنمية والتطوير وتجاوز المعوقات وبناء المستقبل، أعلن ولي العهد السعودي رؤية السعودية 2030 التي هو عرابها، وأعلن المشاريع المساندة لها من برنامج التحول الوطني إلى برنامج تحقيق التوازن المالي إلى برنامج صندوق الاستثمارات العامة، وغيرها، وما يندرج تحت كلٍ منها من عشرات المشاريع والبرامج الكبرى، ولكن بطبيعة الحال أن أمام أي رؤية لبناء دولة جديدة تقوم عشرات المعوقات التي توجب الانتفاضة والإصلاح والتطوير.
يعد الفساد واحداً من أهم تلك المعوقات الداخلية لأي بناء جديد للدول ونهوض بالمجتمعات، ذلك أنه ينخر دائماً في أسِّ الدول، ويصبح تهديداً لوجودها مع تراكم الخبرة والتجربة لدى المستفيدين منه من الأعلى للأدنى، وهذا النوع هو الأخطر، وبالتالي فمحاربته يجب أن تتم بنفس الطريقة من الأعلى للأدنى، دون استثناء، بما يضمن انطلاقاً حقيقياً للمستقبل وإلغاء أكبر المعوقات بصرامة وحزمٍ.
شكّل الملك سلمان لجنة عليا برئاسة ولي عهده وبعضوية مؤسسات الدولة المعنية، لمحاسبة كل فاسدٍ، كبيراً كان أم صغيراً، وقد صرح الأمير محمد بن سلمان من قبل بأن ملاحقة الفساد والفاسدين لن تستثني أحداً، أميراً كان أم وزيراً.
وعملاً بمبدأ الشفافية فقد كان مهماً حفظ حقوق الأفراد المتهمين بتمكينهم من الدفاع عن أنفسهم، وعدم نشر شيء عن أي منهم حتى استكمال التحقيقات، وحماية الشركات التابعة لأي منهم وضمان استمرارها في رفد الاقتصاد الوطني.
أمرٌ آخر، هو الإفراج عن سبعة متهمين لم تثبت إدانتهم، وربما كان ذلك وفق البند الثالث في الأمر الملكي، الذي ينص على «اتخاذ ما يلزم مع المتورطين في قضايا الفساد العام واتخاذ ما تراه بحق الأشخاص والكيانات والأموال والأصول الثابتة والمنقولة في الداخل والخارج، وإعادة الأموال للخزينة العامة للدولة، وتسجيل الممتلكات والأصول باسم عقارات الدولة، ولها تقرير ما تراه محققاً للمصلحة العامة خصوصاً مع الذين أبدوا تجاوبهم معها» فمن يبدي التجاوب يتم التعامل معه بالمرونة التي تحفظ هيبة الدولة، وتحقق المقصود من استعادة المال العام للخزينة العامة.
إن أي حربٍ حقيقية على الفساد كفيلة بإنقاذ الدول من التردي، وكفيلة بتعديل منظومات القيم الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية، ورسم الطريق نحو مستقبلٍ أفضل وقيمٍ أكثر تماسكاً ونجاعة.
خامة مؤسسي الدول وبُناة المستقبل تحثهم دائماً على عمليات هدمٍ وبناء، هدم المواضعات القديمة وخلق مواضعاتٍ جديدة كلياً، وهو ما يجري في السعودية داخلياً وإقليمياً ودولياً.
الدول لا تحب الحروب، ولكنها لا تتخلف عنها حين تحين ساعتها، بل أكثر من هذا أنها تعيد بناء المشاهد الإقليمية والدولية تحضيراً وتمهيداً لها، وهو الدور السعودي الجديد الذي لم يعه العدو الإقليمي والدولي الأشرس في المنطقة نظام ملالي إيران، قائد الطائفية الإرهابية والميليشيات المسلحة والتنظيمات العنفية، واستراتيجية خامنئي في خلق ودعم تلك الميليشيات والتنظيمات لبسط نفوذ إيران وخلق الإمبراطورية الجديدة.
لمن لم يستطع قراءة المشهد، فقد تم قص كل أجنحة النظام الإيراني، عبر خطط محكمة وتحالفاتٍ قوية، وبناء توافقات دولية وإقليمية، وعبر تحالفٍ عربي لمواجهة الحوثي في اليمن، وتحالفٍ مسلمٍ لمحاربة الإرهاب، والمشاركة الفاعلة في تحالفٍ دولي لمحاربة «داعش»، وقد سقط الخائن الشقيق في قطر تحت نير المقاطعة الرباعية، فاعتدلت الأمور شيئاً فشيئاً في اليمن وليبيا وفلسطين وغيرها كما صرح وزير الخارجية السعودي عادل الجبير.
التقادم والتراكم لا يلغي الأخطاء، وتدخلات إيران في دول المنطقة، إن في دعم الإرهاب، وإن في إرسال الصواريخ الباليستية، وإن في خلق الميليشيات المسلحة، خلقت مشكلات ظنت أنها غير قابلة للتجاوز، وحصلت على اتفاقٍ غريبٍ عجيبٍ مع إدارة أوباما والخمسة زائد واحد لتجاوز أزماتها الحقيقية مع العالم ودول المنطقة، ولكن الأمور تتجه اليوم للعودة إلى نصابها بقيادة السعودية.
أن ترسل صاروخاً باليستياً إلى الرياض لم يعد محل أناة ولا صبرٍ، بل محل ردٍ ومعاقبة، وأن تحسب أن المواضعات السابقة لم تزل جارية، وأن تعجز عن الفهم والاستيعاب، فسوف تدفع الثمن غالياً، وحين يراد ضرب الخصوم فالأفضل هو ضرب أفضل نماذجهم وأكثرها نجاحاً بالنسبة لإيران وأكثرها أذى بالنسبة للسعودية ودول الخليج والدول العربية، وهو ما يسمى «حزب الله اللبناني».
منذ سنواتٍ ثلاث والسعودية ترسل الرسائل تصريحاً وتلميحاً وفعلاً وتأثيراً، والمشكلة تكمن في العاجزين عن الفهم، ساسة ومثقفين، وسائل إعلامٍ وكتاب، مراكز دراساتٍ وأبحاثٍ، وكل من لم يفهم تلك الرسائل ممن خانته التجربة والخبرة، وخانه الوعي والفهم، يدفعون الثمن، وسيدفعون أثماناً أغلى في المستقبل القريب والبعيد.
بعد قمم الرياض الثلاث «العزم يجمعنا» كان واضحاً أن المنطقة تتجه باتجاه تعديل كبيرٍ لموازين القوى، واستعادة لكل ما اعتبره الإرهاب مكاسب ومكتسباتٍ لم تعد محل نقاشٍ، سواء إرهاب «داعش» و«القاعدة» وغيرهما، أم إرهاب إيران وميليشياتها والأحزاب التابعة لها، وعودة القوة للتحالف السعودي الأميركي وكافة حلفاء أميركا في المنطقة، وأن معارك المستقبل تبتدئ بضرب اختلالات الماضي وتعديل موازين القوى، وهو ما يجري اليوم على قدمٍ وساقٍ في كافة المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية.
احتلال «حزب الله» للدولة اللبنانية حالة شاذة كان ينبغي أن يتمّ التعامل معها مبكراً قبل كل التغوّل الذي مارسه «الحزب» بقوة السلاح حتى أخضع الجميع في لبنان، وكانت كل التفاهمات السابقة تتم بالتسليم أن أحداً لا يستطيع إيقاف هذا «الحزب»، أو إعادته لحجمه الطبيعي كأحد التيارات السياسية لا أكثر ولا أقل، ولكن ما يجري اليوم هو أن إعادة «الحزب» لحجمه الطبيعي يجب أن تتم بكل الحزم الذي تستلزمه.
نقلا عن "الشرق الأوسط"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة