لا يوجد شيء اسمه قطر.. هي مجرد مكان تلعب فيه أجهزة دولية من إيران إلى إسرائيل وتركيا وجميع شذاذ الآفاق.
بداية لا بد من التأكيد على أن النخب والطبقات الحاكمة في الدول الغربية؛ خصوصا بريطانيا تعودت أن تخطط لقرون وليس لعقود أو سنوات، وأنها تعودت كذلك أن تفكر بصورة حضارية شاملة؛ تغزل السياسي في الاقتصادي في الاستراتيجي في الديني في الثقافي ..إلخ، لتخرج في النهاية بخيط واحد؛ يشبك الأهداف العليا، ويربطها معها برباط قوي لا ينفك ولا يتراخى، وأن التعامل الغربي عموماً مع عالم المسلمين تحكمه عوامل، ومحددات متداخلة منها الاقتصادي والاستراتيجي، ومنها الديني والحضاري، ومنها الثقافي والسياسي ..إلخ، ومن يتجاهل أياً من هذه المتغيرات والمحددات لن يصل إلى شيء أكثر من تأكيد أوهامه، وتحقيق مزيد من الاسترخاء في حال الجهل المركب التي يعيش فيها، والتي تجعله يدرك الواقع على غير حقيقته، بل على عكس حقيقته، ويعتقد جازما أنه يدركه تمام الإدراك على حقيقته.
حتى هذه اللحظة لم تؤكد أي جهة قانونية رسمية في تركيا -البلد الذي تتولى أجهزته القانونية التحقيق في جريمة القتل- هذه الفظائع التي ترددها ليل نهار قناة الجزيرة والصحف التركية، هذا المشهد لا يعبر عن حال طبيعية معتادة في عالم يدعي الموضوعية والدقةلن نبالغ إذا قلنا إن العالم لم ينشغل بموت إنسان في ربع القرن الأخير مثلما انشغل بموت الصحفي السعودي الأستاذ جمال خاشقجي -رحمه الله رحمة واسعة وأنزل على أسرته الصبر الجميل- هذا الانشغال، والتهديد والوعيد لدولة ذات سيادة، وذات مكانة دينية في غاية الأهمية لمليار ونصف المليار مسلم، ومكانة اقتصادية للعالم الصناعي في الغرب والشرق هي المملكة العربية السعودية.
هذا التهديد والوعيد صنع إلى الآن على تغريدات وتسريبات وفبركات تمت من ثلاث جهات: قناة الجزيرة وصحيفتي يني شفق والصباح التركيتين التابعتين للرئيس أردوغان، لأنه حتى هذه اللحظة لم تؤكد أي جهة قانونية رسمية في تركيا -البلد الذي تتولى أجهزته القانونية التحقيق في جريمة القتل- هذه الفظائع التي ترددها ليل نهار قناة الجزيرة والصحف التركية، هذا المشهد لا يعبر عن حال طبيعية معتادة في عالم يدعي الموضوعية والدقة، ويعرف معنى حكم القانون، ويرفض أن ينساق وراء الشائعات، فتصدر تصريحات التهديد والوعيد الشرسة من كبار رؤساء وحكام العالم الغربي مسبوقة بشرط "إذا" كان كذا وكذا.. فإننا سوف نفعل كذا وكذا.
هذا المشهد الذي لا يمكن وصفه إلا "بالسُعار"، ذلك الداء الذي يصيب الكلاب فتهيج، وتعتدي على الإنسان بشراسة قد تؤدي إلى الموت، هذا المشهد الغريب يؤكد أن هناك ما هو أكبر من جمال خاشقجي، وأن جمال خاشقجي إما أنه استخدم كطعم للإيقاع بالصيد المستهدف، أو أن الذين أقاموا الدنيا ولم يقعدوها بعد اختفائه هم أصحاب المصلحة في ذلك الاختفاء، من خلال توظيفه لتحقيق مصالح استراتيجية كبرى.
أولا: هناك مصلحة حضارية في العالم الغربي أن تظل السعودية بصفتها رمزاً للإسلام، وشعاره وموطن مقدساته في حال محافظة بالمعنى الدبلوماسي، وفي حال من الرجعية والتخلف والجمود بالمعنى الحقيقي، ليظل الإسلام مقترناً بالتخلف والجمود، واضطهاد المرأة، ومحاربة العلم والعالم، والوجوه الكالحة، واللحى الطويلة، والأثواب القصيرة، والسحنات الغاضبة المنفرة، أما أن يأتي محمد بن سلمان وبضربة واحدة ينقل السعودية نقلة نوعية تخرجها من هذه الصورة النمطية الزائفة، والتي لا تعبر عن حقيقة جوهر شعبها، فهذا خطر كبير على القوى التي تحكم العالم، وتدير شؤونه لتحقيق سيادتها الحضارية والدينية والثقافية.
ثانيا: بعد أن توارت الصورة البشعة التي سوقها داعش عن الإسلام -صورة قطع الرقاب، وحرق الأحياء- بدأ في الأفق أن هذا النموذج المنفر شديد القسوة أوشك على الاختفاء، لذلك جاء تأليف رواية "المنشار" الذي تم تقطيع الأستاذ خاشقجي به، والموسيقى المصاحبة للتقطيع، وعمليات تغليف لحم السيد خاشقجي، وتقطيع الأصابع وهو حي، ثم قطع الرأس، كلها إعادة إنتاج لصورة داعش، ولكن على مستوى سيادي دبلوماسي عالمي، لتلتصق هذه الصورة المتوحشة ببلاد المقدسات الإسلامية ومن ثم بالإسلام والعرب.
ثالثا: إن الطفرة الاقتصادية الهائلة التي تخطط لها المملكة العربية السعودية سوف تضر بالعديد من الدول المنافسة في منطقة البحر المتوسط، وسوف تخرج السعودية من حال الاقتصاد الريعي القائم على تصدير النفط، ثم ضخ عوائده في الاقتصاد الغربي في أمريكا وأوروبا.. الآن محمد بن سلمان يريد العكس، يريد أن يأتي برؤوس الأموال إلى السعودية.. هذا انقلاب خطير لا بد من إيقافه.
رابعا: أردوغان يحلم بقيادة العالم الإسلامي مع اقتراب 2023 موعد إعلان العثمانية الجديدة، وتقف دولتان في طريقه، هما: بلاد الحرمين حتى يحصل هو على لقب خادم الحرمين الشرفين الذي كان يحرص عليه سلاطين الدولة العثمانية تاريخيا، وكذلك بلد الأزهر حتى يكون شيخ الإسلام هو لقب عالم الدين الجالس بجوار السلطان العثماني، لذلك أردوغان بفطرته الانتهازية سوف يتعاون ويقدم خدمات لأي أحد يريد إضعاف السعودية ومصر حتى تكونتا تابعتين للسلطان العثماني القادم.
خامسا: لا يوجد شيء اسمه قطر، هي مجرد مكان تلعب فيه أجهزة دولية من إيران إلى إسرائيل وتركيا وجميع شذاذ الآفاق، لذلك كان من اليسير توظيف كل أدوات قطر الإعلامية، وهذا كل ما تملكه لتحقيق الأهداف السابقة.
هذا ما جعل حادثة موت الأستاذ خاشقجي -وهي حادثة ممقوتة مرفوضة ممجوجة مقززة، ولا تكفي لغات الأرض للتعبير عن إدانتها- تخرج من كونها جريمة وقعت على شخص، يجب التعامل معها في إطار القانون، إلى كونها كارثة دولية كبرى تتحرك حكومات دول عظمى وكبرى، وتهدد وتتوعد على ألسنة رؤساء دول ووزراء خارجية دولة ذات سيادة قبل أن يصدر تصريح واحد من السلطات القضائية في الدولة التي حدثت فيها الجريمة، ويكون الهدف الأساسي لهذه الحملة هو التخلص من رؤية محمد بن سلمان بأي حجة وبأي دليل، وكأن الهدف ليس حياة الأستاذ خاشقجي وإنما القضاء على طموحات محمد بن سلمان وما يمثله، وابتزاز المملكة ووضعها تحت ضغوط دولية تعيق كل خططها ومشروعاتها.
وهذا ما لا يجب أن يمر تحت مبررات انتهازية تتوشح بغطاء إنساني يصدر من دول لا تعرف هذا المعنى عندما يتعلق الأمر بمصالحها، وإلا لرأينا مواقف أخرى من جوانتانامو، وسجن أبوغريب، ومذابح سوريا وماينمار، والقتل والاغتيال المستمر في ليبيا والصومال ..إلخ.
هي ليست مواقف تعبر عن مبادئ وإنما هي اقتناص فرص لتحقيق مصالح، وما القانون والقيم الإنسانية إلا قفازات لأياد متوحشة تمارس القتل في العالم على مدى القرون الثلاثة الماضية من الهنود الحمر إلى المليون شهيد في الجزائر، وبينهما الهند والصين وكل دول أفريقيا.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة