عندما قامت ثورة الخميني في إيران كانت السعودية هي النقيض الديني لأيديولوجية ولاية الفقيه.
رحم الله الدكتور علي شريعتي الذي قُتل في باريس قبل ثورة الخميني 1979، وتوزعت الاتهامات بين أنصار الخميني، والسافاك؛ البوليس السري للشاه؛ الذي حلَّ محله الباسيج؛ البوليس السري لآيات الله.
علي شريعتي مفكر من طراز خاص، وصف التشيع الإيراني بأنه تشيع صفوي ضد التشيع العلوي في كتاب يحمل عنوان "التشيع العلوي والتشيع الصفوي"، واعتبر توظيف التشيع في إيران بأنه "دين ضد الدين"، وله كتاب يحمل العنوان نفسه. وكتب "النباهة والاستحمار" ليبين كيف يتم توظيف الدين لتحويل البشر إلى قطيع خلف عدماء الدين الذين يحملون ألقاب علماء الدين، خلاصة فكر شريعتي أن التشيع الصفوي نشأ لحماية إيران من الغزو العثماني في بداية الدولة الصفوية، ولذلك كان نقيضا لعقيدة الدولة العثمانية لتحقيق التمايز، وفي الوقت نفسه كانت الدولة الصفوية مقلدة للعثمانية في معظم ممارساتها.
السعودية تقود ثورة ثقافية واقتصادية حقيقية في نظر نقيضها الإيراني، وهنا انفجر المجتمع الإيراني في وجه من حرمه من متع الحياة بمبررات دينية كان جوهرها أن التشيع الإيراني لابد أن يكون أكثر تمسكا بالدين من التسنن السعودي.
وعندما قامت ثورة الخميني في إيران كانت السعودية هي النقيض الديني لأيديولوجية ولاية الفقيه، بحيث مثلت السعودية التحدي الأكبر لنموذج الخميني؛ الذي يريد أن يغيره، أو يضعفه، أو يستحوذ على مصادر قوته، ولعل تكرار حوادث الحجاج الإيرانيين بعد 1979 مؤشر على ذلك.. وفي المقابل ظهرت في السعودية حركة دينية سميت بالصحوة؛ حملت خليطا غير متجانس بين أفكار إخوانية حملها المصريون في هجرتهم الأولى لجزيرة العرب بعد حظر جماعة الإخوان في مصر الناصرية، وأفكارا سلفية أصيلة في بيئة نجد، هذه الصحوة كان جوهرها الإعجاب إلى حد السحر بالنموذج الخميني، والذوبان إلى أقصى حدود العشق بفكرة المرشد الذي يقود ثورة إسلامية ثم جمهورية إسلامية، وهذا البُعد يعود إلى المكون الإخواني في الفكر الصحوي، والرفض إلى حد التكفير للبعد العقدي في النموذج الخميني بسبب انتمائه عندهم إلى فكر "الروافض"، وهذا ناتج من المكون السلفي في فكر أصحاب الصحوة. ولأن المكون السياسي أهم من المكون العقيدي في الفكر الصحوي السعودي؛ فقد كان الإعجاب بنموذج الخميني عند الصحويين السعوديين ومن خلفهم الإخوان يفوق مواطن الخلاف معه.
وظلت العلاقة الجدلية بين النموذج الخميني في إيران والسعودية مستمرة، حيث تمت تغذية الوعي الجمعي الإيراني بأن النموذج الإسلامي الذي يمثل تهديدا لهم هو السعودية، وأن إيران تنافس السعودية في كل بقاع العالم الإسلامي، وأن السعودية وإيران اللاعبان الوحيدان على مستوى الأمة الإسلامية، وأن كل نجاح تحققه إيران هو خصم من قوة السعودية، وأن إيران يجب أن تكون أكثر إسلامية من السعودية... إلخ، وفي الوقت نفسه ركز الصحويون على الخلافات العقائدية والشعائرية بين النموذج الإيراني والعقيدة السلفية، ولكن لم يتم التركيز على الأبعاد السياسية إلا لماما، وعند حدوث أحداث ظاهرة واضحة تمثل تحديا حقيقيا للمجتمع السعودي. وحيث إن المتنافسيْن يقلدان بعضهما بعضا، ويسعى كل منهما للتمايز على الآخر، هنا كان مقتل النموذج الخميني.
فعندما جاءت الإصلاحات الأخيرة في السعودية التي شهدها العام المنصرم 2017، وحدث في المجتمع السعودي ما يشبه الثورة الاجتماعية والثقافية، سواء على مستوى الانفتاح الاجتماعي والثقافي، خصوصا وضع المرأة، أو على المستوي الاقتصادي ومحاربة الفساد من القمة.. هنا تحركت السعودية خارج الدائرة التي رسمها لها نظام آيات الله في إيران، والتي كان يستخدمها هذا النظام لتبرير كل انغلاق وفساد في إيران، هنا ظهرت السعودية في الوعي الجمعي الإيراني كأنها تحقق الحلم الذي يعشش في عقل وقلب كل إيراني وإيرانية محرومة من متع الحياة بحجة دينية، هنا كانت السعودية تقود ثورة ثقافية واقتصادية حقيقية في نظر نقيضها الإيراني، وهنا انفجر المجتمع الإيراني في وجه من حرمه من متع الحياة بمبررات دينية كان جوهرها أن التشيع الإيراني لابد أن يكون أكثر تمسكا بالدين من التسنن السعودي.
صحيح أن ظاهر الثورة الحادثة الآن في شوارع المدن الإيرانية فجرتها قرارات اقتصادية مثل الانتفاضة الخضراء 2009، لكن جوهر الثورة الحالية مختلف، جوهرها ثقافي اجتماعي ديني، يضمر المقارنة بالسعودية، وأحيانا يعلنها، يقارن حالة المجتمع الإيراني بما يحدث في السعودية، يطالب بالتحرر من التشدد الديني، ومحاربة الفساد، وهنا كان حرق صور آيات الله، ووضعها تحت الأقدام في سابقة لم يجرؤ عليها أحد منذ سقوط نظام الشاه 1979، هنا تم استدعاء ما قبل 1979، كما يطالب ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان بالعودة إلى ما قبل 1979، هنا تم رفع صورة شاه إيران لأنه يرمز لإيران الشيعية المعتدلة المتسامحة التي كانت موجودة قبل 1979.
إن عام 1979 هو القاسم المشترك بين ثورة الشعب الإيراني في مواجهة الكهنوت الديني الذي يوظف الإسلام لخدمة مصالح طبقة فاسدة، وإصلاحات محمد بن سلمان التي تريد العودة بالسعودية إلى ما قبل 1979، قبل ظهور تيار الصحوة الذي استخدم ثورة الخميني استخداما مزدوجا، حين أعلن رفضها ومقاومة عقيدتها وفكرها في العلن، بينما في الحقيقة حاول هذا التيار استنساخ النموذج الخميني على المستوى الثقافي والاجتماعي، لصعوبة استيراد الثورة الخمينية سياسيا.
السعودية نجحت في إزالة آثار 1979 من خلال إجراءات سياسية سلمية قانونية، وتقبلها المجتمع السعودي بحكمة وذكاء، وثورة إيران انطلقت لتحقق الأهداف نفسها؛ بالعودة إلى ما قبل ذلك العام، بصورة عنيفة بسبب غرور وتحجر عقول تتحكم في "بيت الرهبة" في قم، وسوف يلتقي الاثنان بالعودة إلى حالة نفي التناقض بين السعودية وإيران، وتحقيق التعايش الإيجابي الذي كان سائدا قبل 1979.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة