قبل يومين، فارقنا سليل النديم، وبيرم، وحداد، وجاهين، عمنا سيد حجاب ذروة التطور في شعر العامية المصري البليغة والعميقة. فارقنا في ذكرى حراك 25 يناير 2011 الكبير والممتد.
قبل يومين، فارقنا سليل النديم، وبيرم، وحداد، وجاهين، عمنا سيد حجاب ذروة التطور في شعر العامية المصري البليغة والعميقة. فارقنا في ذكرى حراك 25 يناير 2011 الكبير والممتد. وهو اليوم الذي كان أحد أركانه. ومنه انطلق تمرد 30 يونيو وكان أحد عناصره الفاعلة. حيث كلل جهده الوطني بكتابة «ديباجة» دستور 2014.
وهي الديباجة التي تعبر عن أهمية إدراك معنى مصر: بتراثها وتاريخها لدى كل مصري. والتي حاول فيها أن يعمق مفهوم الوطنية المصرية المتعددة الأبعاد. كما كان مدركا لتميز كل من حراك 25 يناير و30 يونيو وفرادتهما بين ثورات العالم. وأنهما «إشارة وبشارة، إشارة إلى ماض مازال حاضرا، وبشارة بمستقبل تتطلع إليه الإنسانية كلها».وأننا «نحن المواطنات والمواطنين، نحن الشعب المصري، السيد في الوطن، هذه إرادتنا».
ما جاء في هذه الديباجة إنما يعبر عن حصيلة مشواره الإبداعي الملتزم «بالوطنية المركبة. أي ليس فقط وطنية مواجهة الاحتلال (زمن بيرم)، والاستقلال الوطني (زمن جاهين). وإنما وطنية الالتزام الاجتماعي والاقتصادي والتعبير عن الناس. فجاء شعره يعبر عن هذا بوضوح. ويمثل نقلة موضوعية في إبداع العامية المصرية. إبداع يلتزم الحرية والعدالة من أجل الغلابة. هكذا كان شعره وكانت رسالته الوطنية التي سجلها في ديباجة دستور 2014.
وظني انه كان مدركا لثقل المهمة الإبداعية والوطنية. وأنها مهمة لن يتأتى تنفيذها إلى «بالألم والحلم». فمنذ قصيدته الأولى «ابن بحر»ــ1961. يقول عم سيد حجاب «بلدنا.. بحيرة ومدنة.. وآلام عددنا.. وأحلام تزيد عن عددنا».لقد حكمت جدلية: «الألم ـــ الحلم» حياة عم سيد. أنها جدلية تحكم كل انسان له رسالة ورؤية في الحياة والمجتمع. فما حياة الانسان إلا نتاج للتناقض المبدع. وهو ما نجده يميز أشعار سيد حجاب أبن البيئة البحرية دائمة الجريان والتحول اللاسكونية والمتغيرة دوما.فعن الشعر يقول: «ضحكة من بكا».. وعن الشهيد يقول «كان ماسك بندقية...وف خدينه ابتسامة».. وعن الفجر والظلام يقول: «في الليل إذا ضلم...الفجر يصبح شعر.
فبالرغم من مقدار الألم... فإننا نملك أحلاما لا حصر لها.. وسنحققها، أبدع سيد حجاب في تعاطيه مع اللغة. وكان عبقريا في اللعب بمفردات اللغة وأن يستخلص الكثير والكثير من المفردات الجديدة مثلما في قصيدته «كلمايتي». أو استخدام تكرار نهاية الأحرف في العديد من المفردات كما هو الحال مع قصيدة «القاهرة».. ففي «كلمايتي» يقول «كلمايتي...غنمايتي... عصايتي... آيتي... رايتي...سرايتي...قمرايتي...جمرايتي... مرايتي...مرايتي...تمرايتي...منجايتي... كمنجايتي... رحايتي...! كلمايتي...بدايتي... دايتي... مشايتي... ربايتي... كلمايتي... غايتي...نهايتي...حُفرايتي!
أما قصيدة القاهرة الشهيرة والتي غناها الأصيل والجميل علي حجار فيقول فيها: «هنا القاهرة.. الساحرة، الآسرة، الهادرة، الساهرة، الساترة، السافرة، الزاهرة، العاطرة، الشاعرة، النيرة، الخيرة، الطاهرة، الصابرة، الساخرة، القادرة، المنذرة، الثائرة، الظافرة،...، بحبك يا بنت اللذين.. إلخ».
ويلخص الإهداء الذي تصدر أحد دواوينه الشعرية من أين استقى قدراته الشعرية فكريا ولغويا. فلقد أهدى عم سيد الديوان لكل من:«صلاح جاهين، وعبد الوهاب البياتي، والفلاح المصري المجهول الذي أبدع المأثور الشعبي. فمنهم ـــ يقول سيد حجاب:»تعلمت أن أخطو على عتبات عالم الأصوات حيث يختلط سر السحر وسحر الشعر».
إن هذه الخلطة من شعر الفيلسوف صلاح جاهين صاحب الرباعيات، وأشعار البياتي الرائدة، ومضمون المأثور الشعبي الثرية التي ابدعها المصري في كل ركن من أركان الإقليم المصري هي التي جعلت سيد حجاب يخوض أشكالا شعرية جديدة ومضامين جديدة من خلال مقدمات ونهايات وأغاني المسلسلات التليفزيونية مثل: الشهد والدموع، وقال البحر، وليالي الحلمية،وعصفور النار، وأرابيسك، والوسية، وبوابة الحلواني، أميرة في عابدين،...،إلخ. ولا يمكن أن ننسى خاتمة فيلم كتيبة الإعدام: «حبيبتي من ضفايرها طل القمر». بالإضافة إلى فوازير حاجات ومحتاجات التي كانت تمثل نقلة نوعية في هذا المجال. وهنا لا يفوتني الإشارة إلى محاولته التأسيسية مع صديق عمره عمار الشريعي تقديم حالة غنائية مصرية جماعية من خلال تجربة فرقة الأصدقاء.والذي أذكر كيف قرا علينا القصيدة التي رثاه فيها للمرة الأولى بحضور نخبة من المثقفين والسياسيين بمنزل الصديق الوطني اللواء محمد يوسف.
سيد حجاب هو أحد درر الإبداع المصرية...سعدت وشرفت أن تعرفت عليه خلال الأعوام الأربع الأخيرة. ونشأت بيننا علاقة ممتدة من الحوارات العميقة. كان كلامه في وسط الحوارات الجماعية «تبرق» في عتمة الحيرة والارتباكات. تنير وتبصر...لم يكن يفارقه الألم ولكن كان دوما يلحقه بالحلم.. فبالرغم من قلقه الذي عبر عنه «بالطوفان»...إلا أنه وضع تصوره في ديوانه «قبل الطوفان اللي جاي»...وعن دور الشعب رب الدار...يقول كلامه...يستجيب القدر.
في ذروة ألمه كان يتسلح بالحلم...فقال لي في رسالته الأخيرة التي أرسلها من باريس في سبتمبر الماضي ردا على رسالتي للمعايدة والسؤال عليه: «شكرا أخي العزيز، وينعاد علينا وعلى بلدنا وناسها والانسانية بخير وسلام... وأنا والحمد الله بخير...أو هكذا سأكون... محبتي.. رحم الله عم سيد كما كنت أحب أن أقول له...على عهد «بحماية أحلام أهلنا العشمانين»...وأن تظل بلدنا الحلوة «نيل سلسبيل» وبحبها نفضل رافعين «راسنا لفوق».. نتابع...
*نقلاً عن "الأهرام"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة