شاشة للجميع.. دفاعا عن التعايش
المشاهد يفسر ما يراه ويسمعه، لأن مفاتيح التفسير تؤخذ عادة من السياق الفكري والمكاني والزماني، وهو ما يجعل العمل الفني له أكثر من قراءة
واحدة من المسائل التي بات النقاش حولها محسوماً هي حول قدرة الدراما على لعب دور مهم في صنع رأي عام حول القضايا المختلفة، وتشكيل مواقفنا وقيمنا وتصوراتنا للحياة التي نعيشها، وهو الأمر الذي نقل حيز النقاش من السؤال عن قدرة الدراما على فعل ذلك إلى مجال أهم وأعمق يتعلق بكيفية قيامها بهذا الدور.. وهو الجانب الخطير في صناعة الترفيه، الذي يدفعنا دائماً لدعوة المثقفين إلى استلام زمام ناصية الأعمال الفنية في السينما والتلفزيون، للعب دور في طريقة فهم الناس للقضايا والمفاهيم والقضايا التي تقوم الدراما بتصديرها، وفي مقدمة هذه القضايا تلك التي تتعلق بالمفاهيم الدينية والفهم الخاطئ لها، وما يرتبط بها من مفاهيم حياتية، وأهمها التعايش بين الأديان والتسامح بين أتباعها.
في الحقيقة تلك المسألة شديدة الحساسية، ويجب عدم التساهل فيها، فالفيلم أو المسلسل التلفزيوني هو في جوهره تفسير صانعيه للأحداث التي يتناولونها والمقولات التي يروجون لها، والمشاهد بدوره سيفسر ما يراه ويسمعه، حتى في أكثر المقولات خطابية ومباشرة، فمفاتيح التفسير هذه تؤخذ عادة في السياق، السياق الفكري والمكاني والزماني، وهو الأمر الذي يجعل العمل الفني ذاته يحتمل عشرات من القراءات التفسيرية، التي تختلف باختلاف السياق، ذلك ما يجعلنا نعتقد أن القضية أعقد مما نعتقد، بل تزداد تعقيداً حين تبدأ الدراما بمقاربة المفاهيم الدينية، والتي قد يتعامل معها بعض المشاهدين، لا سيما المتشددين منهم تحديداً، بوصفها تحدياً لمعتقداتهم الدينية.
إزاء هذه العقبات، في كل مرة نقول لصانعي الأفلام والمسلسلات، افتحوا بطبيعة حكاياتكم قلوب الناس، وخاطبوا بأفكاركم عقولهم، فالتسامح يولد من نبض المعرفة، التي تعنى بتكريس مفاهيمها في الانفتاح على الآخر والإيجابية في التعامل معها، فضلاً عن إظهار الاختلاف بين الأديان بوصفه ثراء حياتياً وثقافياً، ما دام الجميع يلتقي عند فكرة الله الواحد، ويرون ما كانت تراه شخصية يوسف آغا النحاس في المسلسل السوري "بواب الريح"، على حد تعبير كاتبه خلدون قتلان، إذ كان يرى أن "الله نور يسكن القلوب، من دون أن يهتم لأسماء الديانات، فإذا عرفت الله، سوف يسكنك نور تحت اسم ديانة ما".
"بواب الريح" (2014)
في الدراما الشامية "بواب الريح" (تأليف خلدون قتلان، إخراج المثنى صبح) سنتعرف على مدينة دمشق وحالة تعايش أهلها رغم اختلاف مكوناتهم الاجتماعية والدينية، وذلك من خلال ثلاث شخصيات رئيسية شيخ كار النحاسين اليهودي يوسف النحاس وشيخ كار نساجي الحرير "البروكار والدامسكو" المسيحي "جورج السكيبي" وحاكم القلعة الدمشقي المسلم "هاشم آغا"، ويجسد هؤلاء الثلاثة توليفة بشرية من الأديان قد يعتقد المرء أنها من نسج خيال المؤلف بهدف إسقاط رمزي لحكايته على الواقع اليوم، وقد بات يغلي في عدد من المناطق من العالم تحت نار الفتنة الطائفية، إلا أن الكاتب يستند في حكايته إلى وقائع حقيقة من تاريخ دمشق مثبتة في مراجع تاريخية منها "حصر اللسان عن فتنة أهل الشام" و"الحرب في دمشق". إضافة إلى كتابي "تاريخ الفنون والصناعات الدمشقية" و"قاموس الصناعات الشامية للشيخ ظافر القاسمي" وغيرها من الكتب.
ومع انتقال فتنة 1860 الشهيرة بين المسحيين والدروز المسلمين من جبل لبنان إلى دمشق ستكشف أحداث المسلسل كيف وقف الجميع معاً على اختلاف طوائفهم في مواجهة الفتنة وإخماد جذوتها، مؤمنين بوحدة حالهم وسلامتهم في المدينة التي شهدت على مدار تاريخها حالة تعايش وود كبيرين بين أبناء الأديان المختلفة.
ليس سرابا (2008)
وحدة معركة الأديان في مواجهة التطرف ودفاعاً عن التعايش سنجدها في المسلسل السوري "ليس سراباً" (تأليف فادي قوشقحيو إخراج المثنى صبح) حيث سيدخل الروائي المسلم جلال وصديقه الصحفي المسيحي ميشيل معركتهم كأصحاب فكر منفتح في مجتمع يميل إلى فكر محافظ تقليدي منغلق على عدة مستويات، ويواجهون التشدد والتطرف في دينيهما، وهو الأمر الذي سيزداد وقعه على قلب جلال الذي سيفاجأ بتشدد ابنه عامر الإسلامي، فضلاً عما يعانيه من زواجه من حبيبته المسيحية "حنان" وما يترتب على ذلك من مواجهات قاسية للمجتمع حولهما.
ويقدم المسلسل المكوّنات الدينية المختلفة في المجتمع والتي تشكّل بتعايشها تنوعاً يمكن أن يكون مصدر جمال وثراء حين يتم التعامل معه بانفتاح حقيقي وصادق، رغم ما يصطدم به من عقبات مصدرها المتشددون في كلا الدينين والانتهازيون فيهم، وأحياناً المهادنين الذين يختارون الانكفاء الداخلي وتجنب الآخر.
"الأخت تريز" (2012)
المسلسل المصري "الأخت تريز" (تأليف بلال فضل إخراج حسام الجوهري) تناول الإخاء الإسلامي المسيحي برمزية كبيرة من خلال الأختين "تريز وخديجة" الشقيقتين اللتين تفرقتا، وهما طفلتان فتربت خديجة بكنف أسرة مسلمة فيما كبرت تريز وسط أسرة قبطية، وتتوالى الأحداث إلى أن تلتقي الشقيقتان، لتثير حبكة العمل الكثير من المفارقات بينهما، ولا سيما أن الأحداث تدور وسط قرية يقسمها الماء بين شرق وأكثر سكانه مسيحيون وغرب وأكثر سكانه مسلمون، وبين هذين القسمين نزاعات وحوادث قتل يغذيها دعاة الفتنة من المسلمين والمسيحيين، وهو الأمر الذي يواجهه العقلاء بين الطرفين، مؤمنين أن الرب سيجمع الكل إذا ما أخلصوا النية، ويسعون في رمزية جميلة إلى وصل القريتين بجسر تلافياً لعبارات المياه التي يتحكم بها أصحاب المصالح أولئك الذين يعيشون على "بزنس الفتنة" على حد تعبير الأخت تريز في المشهد الأخير من المسلسل.
أما الرمزية الأهم في المسلسل فنشاهدها في المشهد الذي يجمع الأختين في المشفى، ويكاد الشبه بينهما يذوب فلا نعرف ولا يعرف من حولهما أي منهما "تيرز" المسيحية وأي منهما خديجة مسلمة، في إشارة إلى وحدة الناس وتشابههم على اختلاف طوائفهم وأديانهم، العمل بالعموم في كل تفاصيله يدعو إلى عدم التعصب الديني ويحذر من عقباته.
"حسن ومرقص" (2008)
بالعموم لا تشترط جدية القضية قالباً درامياً بعينه، إذ لطالما حملت الكوميديا فكراً متقداً واعياً، ففي الإنتاج السينمائي العربي، على سبيل المثال نجد كيف كانت مقاربة الكوميديا لقضية التعايش بين الأديان محور حكاية الفيلم المصري "حسن ومرقص" (تأليف يوسف المعاطي إخراج رامي أمام) للفنانين عمر الشريف وعادل أمام.
والفيلم الذي يقوم على مفارقة تخفي رجل لاهوت مسيحي بزي مسلم وتخفي مسلم بزي مسيحي، سيطرح فكرة أساسية أن اختلاف معتقداتنا الدينية لا يعني عدم قدرتنا على العيش معاً، فبعيداً عن ظاهر ممارسة الشعائر الدينية بيننا الكثير من القواسم المشتركة التي تجعلنا في كل الأوقات واحدا.
فيلم هندي (2003)
وعبر الكوميديا سيقدم الفيلم المصري "فيلم هندي" (تأليف هاني فوزي، إخراج منير راضي) وحدة الحال والإيثار بين الصديقين المسلم سيد والمسيحي عاطف اللذين لا يتوانيا عن الوقوف إلى جانب بعضهما البعض، فنجد كيف كل منها يحاول التنازل للآخر عن الشقة التي شاءت المصادفة أن يجداها معاً، رغم أن عليها سيتوقف مصير العلاقة العائلية الخاصة بكل واحد منهما.
ورغم أن الفيلم لا يركز فكرته حول مقولة التعايش وحدها، ولكنه يجعلها في صدارة حكايته، في رسالة مغلفة بسكر الكوميديا.