تمُر في أكتوبر الجاري 6 عقود على انعقاد "المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني"، الذي بدأ في حبرية البابا يوحنا الثالث والعشرين عام 1962، واكتمل عام 1965 في حبرية البابا بولس السادس.
وتعني كلمة "مجمع" أول الأمر تجمّع البابا الروماني الكاثوليكي مع بقية أساقفة ومطارنة وعلماء ولاهوتيي الكنيسة الكاثوليكية من بقاع وأصقاع الأرض، وهو حدث تجري به المقادير كل نحو مائة عام تقريبًا، فقد جرى "المجمع الفاتيكاني الأول"، والذي انعقد بدعوة من البابا بيوس التاسع، في الفترة "1869-1870".
مهمة أي مجمع من هذا النوع مناقشة ومراجعة كل ما يخص شؤون الكنيسة والمؤمنين، ومواكبة تطورات الأزمنة، وتقديم رؤى عصرانية تتسق واحتياجات الكاثوليك المنتشرين في 6 قارات الأرض، الروحية والاجتماعية، وإرشادهم عبر روئ تعمل على تنمية الأمم وترقية الشعوب.
يحق للقارئ أن يتساءل، وله في الحق ألف حق: "ما علاقة العالم الإسلامي بروما والفاتيكان ومجامع المسيحيين في القرن العشرين؟".
هذا المجمع اعتُبر، ولا يزال، جسرًا من الصداقة بين المؤسسة الفاتيكانية، الممثلة للكنيسة الرومانية الكاثوليكية، وبين العالم الإسلامي.
خَطَا هذا المجمع خطوةً جديدة في تاريخ المجامع المسكونية، ولعل أهم ما يميزه أنه لم يهدد ولم يطرد، كما لم يحرم أو يتطرق إلى إعلان عقائد إيمانية جديدة كالمجامع السابقة، بل امتاز عنها كثيرًا، لكونه حمَل الكنسية على إلقاء نظرة إلى ذاتها من الداخل، ليتسنّى لها أن تبعث في جنباتها حيوية تتجاوب مع مقتضيات العصر، فتقوى حينذاك على بعث حيويتها إلى الخارج.
صدر عن هذا المجمع أول وثيقة مسيحية معاصرة، بلورت رؤية المسيحية للمسلمين حول العالم، وقد جاءت تحت عنوان "في حاضرات أيامنا"، وجاء صدورها تلبية لرغبة البابا الداعي للمجمع، وعبّر عنها الكاردينال "بيا"، ألماني الأصل، وهدف البابا من هذا التصريح أن يستأصل كل جذور الكراهية والحقد، التي طالما تسببت في الصراعات، وبخاصة حين اتخذت النصوص الدينية تاريخيا ذريعة لذلك.
تُظهر الوثيقة احترامًا فائقًا للمسلمين في ربوع الأرض، وتعترف بأنهم يؤمنون بالله الواحد الأحد القيوم الرحمن، فاطر السماء والأرض، ويشير نص الوثيقة إلى تسليم المسلمين لأحكام الله الخفية وقضائه.
حمل هذا النص/الوثيقة دعوة تصالحية غير مسبوقة في الخطاب المسيحي الغربي، دعوة لم تعرفها أوروبا طوال خمسة عشر قرنًا، وتدعو للقفز على الماضي، وكذا انتكاساته وإخفاقاته.
نقرأ في متن الوثيقة ما نصه: "ولئن كان عبر الزمان قد وقعت من المنازعات والعداوات بين المسيحيين والمسلمين، فإن المجمع يُهيب بالجميع أن ينسوا الماضي، وأن يعملوا باجتهاد صادق سبيلا للتفاهم فيما بينهم، وأن يتماسكوا من أجل جميع الناس على حماية وتعزيز العدالة الاجتماعية والقيم الأدبية والسلام والحرية".
يتساءل المرء: "هل هي مصادفة قدرية أم موضوعية أن تتواكب الذكرى الستون لانطلاق أعمال المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني مع زيارة جديدة يقوم بها الفقير وراء جدران الفاتيكان، البابا فرنسيس، إلى مملكة البحرين، للمشاركة في منتدى يسعى للتعايش الإنساني بين الشرق والغرب؟".
بعيدًا عن الجواب، دعونا نشير إلى أمر مهم للغاية، وهو أنه دون ذلك المجمع، ومن غير وثيقة NOSTRA AETATE، ما كان فرنسيس، ولا مَن قبله من باباوات روما في النصف الثاني من القرن العشرين، قُدّر لهم الاقتراب -بل الاشتباك الإيجابي والخلاق- من قضايا العالم العربي والإسلامي، لا سيما البابا يوحنا بولس الثاني، الذي لعب دورًا بالغ الأهمية في دعم القضية الفلسطينية، عطفًا على زيارته لعدد من الدول الإسلامية مثل مصر والمغرب، ودول أفريقية ذات أغلبية إسلامية.
فتحت وثيقة "حاضرات أيامنا" الطريق كذلك إلى البابا الأرجنتيني، بعيد الصلة عن العالمَيْن العربي والإسلامي، ورغم ذلك فإنه جسّد المودة والأخوة والصداقة بصورة غير مسبوقة مع العالمَين العربي والإسلامي.
ولعل من الثمار الجيدة لفكر "المسكوني الفاتيكاني" خروج وثائق ستبقى حاضرة على مدى الأزمان في العَلاقة بين البشر عمومًا، كما الحال في وثيقة "الأخوة الإنسانية"، التي وُقعت على أرض دولة الإمارات العربية المتحدة في الرابع من فبراير/شباط من عام 2019، والتي كانت بدورها إلهاما للبابا فرنسيس، لأن يخرج على العالم برسالة "كلنا أخوة"، وقد كان ذلك في مدينة أسيزي في 3 أكتوبر/تشرين الأول من عام 2020.
ستة عقود مرت من الدعوة للمحبة والمودة، لنبذ الضغينة والحقد، ولتشريع الأبواب للآخر، وهي دعوات تحتاج من أصحاب النيّات الطيبة إلى مزيد من الدعم والتشجيع في طريق حوار صادق مخلص، وعالم أكثر إنسانوية يسعى للحياة، عوضا عن الموت، وللوفاق بديلا عن الافتراق.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة