لا تحتاج القارة الأفريقية إلى الكثير لترى أنها أصبحت موضع زحام دبلوماسي أمريكي وروسي، بينما "تتزاحم" الصين مع نفسها بالمشاريع هناك.
هذه القارة الغنية بالموارد عطشى للاستثمارات. والعلاقة بين الموارد والاستثمارات ليست علاقة وعود ولا أمنيات. إنها علاقة عمل. وأفريقيا باتت من النضج ما يكفي لكي لا تحمل أحدا على محمل الخصومات أو حتى التنافس الدولي نفسه. الكل جديرون بالصداقة، إذا ما قدموا ما يبرهن على أنها ليست مجرد صداقة تحالفات سياسية، تتحول إلى قيود، وتاليا إلى سبب من أسباب التخلف والصراعات الداخلية.
هناك ما يبرر الخشية، لدى العديد من دول القارة الأفريقية، من سياسات الاستعلاء الغربية. ليس فقط لأنها تعيد تذكيرهم بأسوأ ما ترك الاستعمار في النفوس، ولكن لأنها تنطوي على استعداد مسبق لاستئناف وجوه جديدة من أوجه الاستغلال القائم على التبعية، إما لأسباب أمنية، وإما لأسباب مادية.
الدول الأفريقية التي غدت مستقلة، لم تنس ماضي الاستعمار الغربي. ولن يُرضيها أن تبقى تحت سلطة النظرة الاستعلائية نفسها. سيادتها، وقدرتها على اتخاذ قرار يتوافق مع مصالحها الوطنية، أصبح قيمة لا يمكن تجاهلها. ويخسر من يجرؤ على التعدي عليها.
العولمة التي فتحت الأبواب أمام أفريقيا لترى أهمية مواردها وإمكانياتها للنمو الاقتصادي العالمي، هي نفسها العولمة التي لعبت دورا في نهضة الوعي الوطني. والمعنى من ذلك، هو أن المستعمرين القدامى يخدمون مصالحهم أكثر لو أنهم كفوا عن التصرف كمستعمرين قدامى أو جدد.
الأرض البكر هناك، تنتظر حرثا وزرعا على أفضل ما يمكن لعقود العمل أن تنطوي عليه من منافع متبادلة، قائمة على الندية والمساواة واحترام السيادة الوطنية. أي شيء أقل من ذلك، يمكن أن يتحول إلى مغامرة لا نفع فيها، أو يسهل الانقلاب عليها لتصويبها.
مجلة "لكسبريس" الفرنسية هي التي أوجزت ما دفعها إلى القول "إن البيت الأبيض بأكمله بات يتنقل في أفريقيا منذ بداية العام، حيث زارت وزيرة الخزانة الأمريكية جانيت يلين خلال شهر يناير/كانون الثاني الماضي السنغال وزامبيا وجنوب أفريقيا، ثم زارت ليندا توماس غرينفيلد، السفيرة الأمريكية لدى الأمم المتحدة، غانا وموزمبيق وكينيا، تلتها زيارة جيل بايدن السيدة الأولى الى ناميبيا وكينيا، وفي الأيام الأخيرة كان أنتوني بلينكن، وزير الخارجية، في إثيوبيا والنيجر. وفي نهاية الشهر، ستسافر نائبة الرئيس كامالا هاريس إلى غانا وتنزانيا وزامبيا. ولم يبق إلا الرئيس بايدن الذي وعد بجولة أفريقية هذا العام".
فات المجلة أن تلاحظ أن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف قام بجولتين في غضون 6 أشهر شملت أنغولا وإسواتيني وجنوب أفريقيا وإرتيريا ومصر والسودان والكونغو وأوغندا وإثيوبيا. وبينما تخلت روسيا عن ديون تبلغ 20 مليار دولار مستحقة على عدة دول أفريقية، فقد وقعت شركة "روساتوم" للطاقة اتفاقات مع 14 دولة أفريقية للتعاون في المجال النووي ذي الاستخدامات المدنية، كان من بينها صفقة بـ76 مليار دولار مع جنوب أفريقيا وحدها.
الدبلوماسية الروسية لا تمشي بـ"بسطال" عسكري من بساطيل الماضي الاستعماري في أفريقيا، ما يجعلها تبدو في وضع أيسر، إلا أن الدول الأفريقية تدرك ما يمكن للولايات المتحدة أن تقدمه.
الصين في المقابل، تنشغل بـ"ورشات" عمل في أكثر من 40 دولة. وسبقت المتنافسين الجدد في الرهان على ما تعنيه "التنمية" للمجتمعات الأفريقية الفقيرة.
وحيث إن عالم الحرب الباردة قد زال، فقد زالت اشتراطاته وضغوطه السياسية. وهو ما يعني أن علاقات المصالح الراهنة بات من الواجب أن تتحرر من أثقال تلك الاشتراطات والضغوط.
حتى مفاهيم "الصداقة" و"التعاون" و"التضامن" نفسها تجردت من تلك الأثقال، لتصبح مفاهيم ترتبط بمشاريع العمل. وما لم يتم "تمويل" الصداقة والتضامن، بما يخدم متطلبات التنمية، والمنافع المتبادلة، فإنها لن تملك ذلك التأثير الذي كانت تملكه في الماضي.
الدول الكبرى تتنافس فيما بينها أيضا. هذا جزء من طبيعتها وطبيعة مصالحها. ودول العالم المختلفة يمكنها أن تتفهم المنافسة حتى بين فرقاء الطرف الدولي الواحد. ومن المشروع تماما أن تستفيد منها، وأن تُفاضل بين ما يُعرض عليها من خيارات وفرص. كلمة السر الوحيدة في هذه المسألة هي: كم ستعطي في مقابل ما ستأخذ؟
هذه الكلمة تجردت من الاعتبارات المثقلة بأيديولوجيات وانحيازات سياسية مسبقة، وأصبحت كلمة تُحسب بالأرقام بالدرجة الأولى.
المستعمرون القدامى يحسنون صنعا لأنفسهم لو أنهم نزعوا بساطيل الماضي وساروا حفاة في أفريقيا، ليعرضوا صداقة وتضامنا يمكن حسابهما بالأرقام.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة