العملاء الوهميون.. «سلاح سري» حسم معركة نورماندي
في الوقت الذي تتواصل فيه الاحتفالات بالذكرى الـ80 ليوم الإنزال تكشف قراءة للتاريخ أن المزيد من عناصر الحلفاء كان يمكن أن يموتوا لولا مجموعة من الجواسيس.
ولم تكن احتمالات نجاح خطة الإنزال كبيرة حيث دافع ما يقرب من 50.000 جندي نازي عن شواطئ فرنسا الخمسة التي استهدفتها قوات الحلفاء في يوم النصر وفقا لما ذكره تيم نفتالي في مقال رأي على شبكة "سي إن إن" الإخبارية الأمريكية.
ورغم أنه كان من المقرر أن يدخل 160 ألف جندي من قوات الحلفاء فرنسا فإن أول من وصل عدد أقل بكثير لكنه نجح في اجتياز التحدي الأول المتمثل في الجنود النازيين المتحصنين في المخابئ وغيرها ضمن ما يسمى جدار الأطلسي فيما جاء التحدي الثاني بمجرد أن اكتشف الألمان أن معركة فرنسا قد بدأت.
كان جيش هتلر الخامس عشر متمركزًا في منطقة باس دي كاليه حيث تكون القناة الإنجليزية في أضيق حالاتها بينما جرى الاحتفاظ بفرق الدبابات في الاحتياط في شمال فرنسا وبلجيكا، وكلها على استعداد للانقضاض وتدمير أي قوات حليفة تخترق جدار الأطلسي.
في هذه الظروف، لجأ قادة الحلفاء إلى جواسيس غير عاديين كانت مهمتهم في البداية، إيصال معلومات كاذبة إلى أدولف هتلر، وليس سرقة الأسرار النازية.
ولم يكن بعض هؤلاء الجواسيس موجودين في الواقع، بل كانوا من اختراع المخابرات البريطانية قبل نصف قرن من انتشار الإنترنت والحسابات المزيفة على فيسبوك وإنستغرام.
وكان هؤلاء الجواسيس معروفين لدى المخابرات البريطانية والأمريكية باسم شبكة Double-Cross. وكانوا عملاء وظفهم النازيون، وسلموا أنفسهم للبريطانيين أو اعتقلوا خلال السنوات الأولى من الحرب العالمية الثانية.
وتعد مكافحة التجسس أكثر الفنون غموضًا وفي أبسط صورها هي الطريقة التي تحمي بها الحكومة أسرارها من خلال دراسة أنشطة الحكومات الأجنبية لكن الحرب العالمية الثانية شهدت توسعًا كبيرًا في الاستخدام الهجومي للتجسس المضاد ليس فقط لمنع العدو من معرفة الأشياء، ولكن لخداعه من خلال زرع معلومات مضللة.
ورغم أن الخداع الاستراتيجي، كما كان يسمى، استُخدم عدة مرات في الحرب العالمية الثانية، إلا أن المثال الأكثر دراماتيكية وأهمية كان خلال التخطيط ليوم الإنزال حيث استخدم البريطانيون الجواسيس لخداع مخابرات هتلر باستخدام البث الإذاعي من المملكة المتحدة أو الرسائل المرسلة من عواصم محايدة حول متى وأين خطط الحلفاء لشن غزوهم المتوقع لفرنسا.
وكان محور هذه العملية هو خوان بوجول غارسيا، وهو مواطن إسباني يحمل الاسم الرمزي غاربو والذي صدقه الألمان واعتبروه فعالاً بشكل غير عادي فأنشأ البريطانيون عملاء فرعيين خياليين له.
وكان غاربو يغذي معلومات مضللة حول العملاء المزيفين الذين من المفترض أنهم وُضعوا في الحكومة البريطانية والقواعد الأمريكية في المملكة المتحدة.
وبالتنسيق مع الجيش الأمريكي ومكتب الخدمات الاستراتيجية التابع له، عزز البريطانيون المعلومات المضللة التي كان غاربو ينقلها إلى برلين وشمل ذلك إرسال إشارات لاسلكية من وحدات عسكرية أمريكية غير موجودة في بريطانيا وإنشاء "جيوش أشباح" كاملة بدبابات قابلة للنفخ، وحركة راديو وهمية ومؤثرات صوتية لخداع الاستطلاع الجوي الألماني وتحويل انتباههم بعيدًا عن أنشطة الوحدات الحقيقية.
ومنذ يناير/كانون الثاني 1944، بدأ غاربو و"عملاؤه" في خداع برلين ووفقًا للاستخبارات المزيفة فإن الغزو الكبير سيسبقه خدعة واحدة أو أكثر عن طريق غزوات أصغر مصممة لإلهاء الألمان.
وكان الهدف الرئيسي لهذا الخداع هو إقناع هتلر بإبقاء الجيش الـ15 وفرق الدبابات في الاحتياط، بعيدًا عن شواطئ نورماندي لأطول فترة ممكنة.
ومع اقتراب يوم الإنزال الحقيقي، تأكد الحلفاء من نجاح الخداع حيث كانت المخابرات الأمريكية تفكك رسائل هتلر المشفرة إلى طوكيو بشكل روتيني عندما اكتشفت أن الزعيم النازي أخبر اليابانيين أن الحلفاء كانوا يعتزمون شن هجومين عبر القناة الإنجليزية في صيف عام 1944.
واستمر نجاح الخداع فلم يحول النازيون كل مواردهم إلى نورماندي، وحتى بعد شهر من يوم الإنزال، كان هتلر لا يزال يعتقد أن نورماندي كانت مجرد خدعة.
روجر فليتوود هيسكيث هو الرجل الذي ابتكر خدعة يوم الإنزال وكان مهندسًا معماريًا مدربًا اعتاد وهو طفل على تعويض عدم وجود الكثير من الأصدقاء له ولشقيقته بإنشاء عالم خيالي من رفاق اللعب.
وإلى جانب الإبداع، كان أحد مفاتيح التجسس في الحرب العالمية الثانية هو فك الشفرات الذي سمح للحلفاء بتقييم ما إذا كانت جهودهم ناجحة، ومضاعفتها عندما تأكدوا من ابتلاع النازيين للطعم.
فكانت واشنطن قادرة على قراءة ما يقوله اليابانيون حول رؤية هتلر لتقدم الحرب وقراءة ما يقوله ضباط المخابرات الألمانية فيما بينهم حول مصداقية عملائهم في المملكة المتحدة.
ورغم أن الكثير من عمليات مكافحة التجسس خلال الحرب العالمية الثانية ظلت سراً للعامة لما يقرب من 30 عامًا بعد 6 يونيو/حزيران 1944، إلا أن هذه التكتيكات كانت معروفة جيدًا بين ضباط المخابرات واستخدمت على نطاق واسع خلال الحرب الباردة.
وكما يظهر في المسلسل الدرامي الجديد لـ"سي إن إن" الذي يحمل عنوان"أسرار وجواسيس: لعبة نووية"، فإن عام 1944 كان عصرا ذهبيا لمكافحة التجسس والخداع الاستراتيجي وأن الحرب الباردة ستوفر بيئة أكثر تكافؤاً، وبالتالي أكثر صعوبة، للتجسس.
وخلال الحرب الباردة كان التأكد من الولاء النهائي للعملاء المزدوجين هو أمر مستحيل تقريبا فأصبح العثور على الخونة أكثر صعوبة، وأصبحت أجهزة الاستخبارات أكثر عرضة لعمليات البحث غير المجدية.
وفي بعض الأحيان كان عدم كفاية مكافحة التجسس يجعل العالم أكثر خطورة فمنذ 1979 ولمدة 20 عاما كان روبرت هانسن، كبير ضباط مكافحة التجسس الأمريكيين هو نفسه عميلاً سوفياتياً وأدت هذه الأزمة إلى إعاقة جهود الغرب لمراقبة وفهم الاتحاد السوفياتي بشكل كامل خلال الثمانينيات.
والآن، وبعد 80 عامًا على يوم الإنزال و35 عامًا على نهاية الحرب الباردة، لم تعد الهويات المزيفة والمعلومات المضللة منوطة بمخاوف عملاء مكافحة التجسس لكنها جزء من حياتنا اليومية عبر الإنترنت فأصبح كل واحد منا ضابط مخابرات يحاول التمييز بين المعلومات المضللة والحقيقية فأصبحت الاستراتيجية التي أنقذت يوما آلاف الأرواح شائعة على الإنترنت وقوضت الثقة في المؤسسات والأشخاص.
aXA6IDMuMTM1LjE4OS4yNSA= جزيرة ام اند امز