التاريخ هو عبارة عن حاضر قوم آخرين تجاوزه الزمن، بمعنى أن حاضرنا، ومجتمعنا اليوم بكل ما فيه هو تاريخ في مرحلة التصنيع لأجيال قادمة.
التاريخ مخزون تجربة الأمم، مصدر إلهامها، ومنبع للدافعية الحضارية فيها، التاريخ هو ميراث المجتمع، تركه الآباء والأجداد ليستعين به الأبناء والأحفاد على واقعهم ومستقبلهم، التاريخ هو الثروة المعنوية لكل أمة. فهناك أمم غنية، وأمم فقيرة في ثرواتها التاريخية. التاريخ ثروة صامتة جامدة، نحن من نُفعّلها، ونحييها، وننتقي منها ما يعيننا على تحديات واقعنا، وما يساعدنا على العبور نحو مستقبلنا، التاريخ ميراث أو تراث لم يتم تصنيعه خصيصا لنا، هم صنعوه لأنفسهم، ولكنهم رحلوا، فوصل إلينا رغما عنهم، أو بإرادتهم، لكنه لم يكن مصممًا ليجيب عن أسئلتنا، أو ليواجه تحدياتنا، التاريخ هو التاريخ، لا يد لنا في صناعته، ولا قدرة لنا على تغييره.. لكن نحن أحرار في توظيف أفضل ما فيه، واختيار أنفع ما فيه، لتحقيق أهدافنا في حاضرنا أو مستقبلنا، دون أن نهيل التراب على ما لا نريد؛ لأنه ملك لأجيال، وقرون قادمة، قد يكون ما نرفضه اليوم من التاريخ نافعا لهم في سياق آخر، أو زمان آخر، أو مكان آخر.
التاريخ عبارة عن حاضر قوم آخرين تجاوزه الزمن، بمعنى أن حاضرنا، ومجتمعنا اليوم بكل ما فيه هو تاريخ في مرحلة التصنيع لأجيال قادمة، أي أن التاريخ هو عبارة عن حركة تلقائية لمجتمع معين في لحظة معينة تم تحنيطها وحفظها، فجاء جيل آخر في زمن تالٍ لينظر فيها، ويستفيد منها
التاريخ هو عبارة عن حاضر قوم آخرين تجاوزه الزمن، بمعنى أن حاضرنا، ومجتمعنا اليوم بكل ما فيه هو تاريخ في مرحلة التصنيع لأجيال قادمة، أي أن التاريخ هو عبارة عن حركة تلقائية لمجتمع معين في لحظة معينة تم تحنيطها وحفظها، فجاء جيل آخر في زمن تالٍ لينظر فيها، ويستفيد منها، لذلك نجد الأمم الحية المتقدمة تحتفي بتاريخها، وتفخر به، رغم أن فيه من المساوئ والعيوب ما تقشعر منه الأبدان؛ لأن البشرية لا تستطيع أن تعيش الحاضر دون عمق تاريخي، فلا يوجد مجتمع يمكنه أن يعيش حاضره، وتكون له ذات وهوية، دون أن يكون له تاريخ يفخر ويعتز به، ومن ليس له تاريخ ينسب نفسه لأقرب تاريخ من قومه، حتى لا يكون معدوم الوجود فاقد الهوية منزوع الذات.
تعارفت الأمم على أن يكون التاريخ أفكارا وأحداثا وأشياء وأشخاصا، هذه الجوانب الأربعة سماها المفكر الجزائري المرحوم مالك بن نبي العوالم الأربعة وهي: أولاً، الأفكار هي ما تركه الأقدمون من تراث فكري ديني، أو أخلاقي، أو فلسفي، أو علمي، أو سياسي، أو اجتماعي، والأمم تعتبر ذلك معينا فكريا لها تأخذ منه أفضل ما فيه، فالأوروبيون مثلا أخذوا أفضل ما في الفكر الإغريقي والروماني، ولم يلتفتوا كثيرًا إلى الخرافات والأساطير. وثانيا، الأحداث هي المعارك والبطولات التي تدخل في تشكيل أمجاد كل أمة من الأمم، لذلك تحتفل الأمم ببطولاتها، وتحاول تجاوز أو تجاهل هزائمها، فلا نجد أمة من الأمم تحتفي بالهزائم. وثالثا، الأشياء وهي المخترعات، والآثار والأدوات التي تحتفي وتحتفل بها جميع الأمم وتنشئ لها المتاحف، حتى إن البريطانيين قد أنشأوا متحفا لأدوات التعذيب في السجون، وهم أول دعاة الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان. وأخيرا، الأشخاص، فالأمم تعتز بأبطالها، ورموزها الفكرية والعلمية والسياسية والعسكرية.
ولنركز على موضوع الأشخاص في التاريخ، حيث نجد أن الأمم جميعها تعتز برموزها، وتصنع لهم التماثيل، وتقدمهم للأجيال المتتالية على أنهم رموز وقدوة؛ لدفع الأجيال الجديدة للتعلق بإنجازاتهم وبطولاتهم وأمجادهم، لعلهم يكونون مثلهم، وكما هو معروف ليس هناك شخص في التاريخ أو الواقع كامل الأوصاف وخالٍ من العيوب إلا الأنبياء والرسل، لذلك كل الرموز التاريخية لجميع الأمم فيها من العيوب ما يُخجل منه، ولكن من ينقل سيرتهم للأجيال الحاضرة والقادمة لا يركز على العيوب وإنما يضخم المزايا؛ لأن الهدف هو صناعة هوية للأمة، وتربية أجيال على هذه الهوية، وخلق الدافع والحافز في قلوب وعقول الأجيال الجديدة من خلال تقديم نماذج للقدوة من الواقع التاريخي.
مثلا جورج واشنطن الأب الروحي للأمريكان كان مجرما من أكابر مجرمي الأرض قتل من الهنود الحمر عشرات الآلاف، وغدر بهم، وخان عهودهم، ودفنهم تحت مبنى الكونجرس، ووضع تمثالا لهندي أحمر فوق قبة الكونجرس، لكن هذا الجانب لا يذكره أحد، ولا يتم تقديمه للثقافة العامة، يعرفه المتخصصون، ولا يذيعونه، كذلك كان جورج واشنطن ماسونيا متعصبا، أصر على أن يلبس الزي الماسوني عند وضع حجر الأساس للكونجرس، وعند توقيع الدستور، وهذا أيضا لا يذكره أحد، وملوك بريطانيا وملكاتها لهم من المغامرات والأخطاء ما يندى له الجبين، ولكن كل ذلك لا يتم ذكره، تقدم هذه الشخصيات الرموز في صورة ناصعة؛ لأنها قدوة ومثل أعلى للأجيال القادمة.
خلاصة القول.. أن التعامل مع التاريخ ليس مقصودا به التاريخ ذاته، فذلك متروك للمؤرخين في قاعات البحث والدرس، أما ما يقدم للثقافة العامة فهو الجانب الإيجابي فقط، هذا يحدث مع جميع الأمم، إلا في مصر.
فقد ابتليت مصر بمجموعة من النرجسيين الذين تضخمت ذواتهم بعد أول عمل فكري كتبت عليه أسماؤهم، بعد أن نشر الواحد منهم كتابا أو مقالا تحول إلى إله في ذاته، رغم أنه نصف عالم، أو ربع باحث، أو خمس مثقف، لذلك هو في أحسن الأحوال نصف جاهل، إذا ما اعتبرناه نصف عالم؛ لأن نصف العالم نصف جاهل في ذات الوقت، تحول هؤلاء إلى زبالين، لا يبحثون في التاريخ إلا على مواطن الزبالة، وللأسف أُتيحت لهم الفرصة، وفتحت لهم القنوات الفضائية لنشر زبالة التاريخ على مسامع الأجيال الجديدة؛ لإفقادها الثقة في تاريخها وشخصياتها ورموزها، بدون هدف، وبدون غاية إلا أن يظهر الواحد منهم أنه اكتشف شيئا جديدا لم يصل إليه أحد قبله، بنفس عقلية المراهقين الذين يحبون التظاهر والتفرد والتميز، فأصبحنا كل يوم نسمع من واحد من الباحثين في زبالة التاريخ طعنا في شخصية ما على طول تاريخنا وعرضه، بدون أن يقولوا لنا ما الفائدة من الطعن في أحمد عرابي أو محمد فريد أو مصطفى كامل أو غيره إلا مزيد من تدليك وتدليل الذات المتضخمة للصغير المتخصص في البحث في زبالة التاريخ.
أذكر في عام 1984 وفي محاضرة في تمهيدي الماجستير؛ فعلت مثلما يفعل هؤلاء الباحثون في زبالة التاريخ، فذكرت أشياء سلبية عن زعيم ثورة 1919 سعد زغلول تتعلق بأخيه فتحي زغلول، فعلق أستاذي الدكتور علي الدين هلال على كلامي بالقول إن الأمم تحتاج إلى رموزها أكثر من حاجتهم لها، فقد رحلوا، ونحن نحتاج لوجودهم في حياتنا، ولا فائدة من تشويه صورتهم، وإن المثقف الحقيقي هو من يهتم باحتياجات مجتمعه، ولا ينقب في تاريخ أمته عن نقاط الضعف ومواطن السوء، وإذا عرفنا عنهم شيئا لا يسرنا لا ننشره؛ لأن تأثيره على المجتمع خطير، لأنه يفقد المجتمع الثقة في الذات، ويضعف أحلامه وطموحه.. ليت الباحثين في زبالة التاريخ كانوا حاضرين في تلك اللحظة.