محمد شعير لـ"العين الإخبارية": حياة نجيب محفوظ تشبه بحر الرمال العظيم
"العين الإخبارية" تُحاور الكاتب المصري محمد شعير، الذي دخل كتابه "أولاد حارتنا.. سيرة الرواية المحرمة" القائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد للكتاب.
غالبا ما تقترن الصحافة الاستقصائية بالقضايا السياسية والاجتماعية والمالية، إلا أنها كانت أداة طيّعة في يد الكاتب المصري محمد شعير، وهو يستعين بها كوسيلة بحثية في عالم الراحل الكبير نجيب محفوظ.
ففي كتاب "أولاد حارتنا.. سيرة الرواية المحرمة"، الصادر عن دار "العين" المصرية للنشر، قدم محمد شعير قراءة بحثية لـ"أولاد حارتنا"، ولم يتعاطَ معها كمجرد رواية مثيرة للجدل آنذاك، بقدر ما تعامل مع مناخها الدرامي المواكب لذلك الصدور، فهي حسب تعبيره "حاضرة في كل ما يتعلق بنجيب محفوظ: عمله، حياته، رؤيته للعالم، جائزة نوبل، الحادث الذي كاد أن يودي بحياته، وحتى جنازته، بل بعد رحيله، فهي نقطة ملتهبة، حياته قبلها لم تعد كحياته بعدها".
وحاز كتاب "أولاد حارتنا.. سيرة الرواية المحرمة" على كثير من التقدير الأدبي والنقدي والقرائي، وأخيرا تم إدراجه ضمن القائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد للكتاب فرع "الفنون والدراسات النقدية".
الكاتب المصري محمد شعير يتحدث في حوار لـ"العين الإخبارية" عن أجواء الكتاب، وما يليه من مشروعات بحثية وسردية مُتعلقة، وذلك مواكبة لذكرى أديب نوبل الراحل نجيب محفوظ، وإلى نص الحوار:
الولوج إلى عالم نجيب محفوظ له بوابات شتى، لماذا وقع اختيارك على بوابة "أولاد حارتنا" تحديدا؟
كنت أعمل على سيرة للحداثة في مصر مستندا إلى سيرة نجيب محفوظ، واستوقفني مشهدان في حياته، مشهد الولادة في حارة قاهرية في بداية القرن الـ20، فعندما تتعثر الولادة تلجأ الأسرة إلى طبيب أمراض نساء قبطي شاب لإنقاذ الأم والجنين، ليحمل الطفل الوليد اسم الطبيب فيما بعد، أما المشهد الثاني فكان في بداية القرن الـ21، وتحديدا عام 2006، عندما وصل جثمان نجيب محفوظ إلى مسجد الحسين ليصلى عليه صلاة الجنازة، وحينها اقتحم شاب صغير صفوف المصلين وصرخ فيهم "ده كافر لا تجوز الصلاة عليه".
بين المشهدين كان السؤال: ماذا حدث داخل المجتمع؟ بدأت العمل منطلقا من هذه الفكرة ولكن أثناء العمل اكتشفت أن حياة محفوظ التي تبدو لنا وكأنها قد استهلكت وعرفنا عنه كل شيء لاتزال مجهولة، أو على الأقل، ما يبدو منها مثل قمة جبل الثلج العائم بينما بقية الحياة مختفية.
تغير منهج العمل في الكتاب كثيرا، في كل مرة أبدأ فيها مخططا يتغير بناء على مُعطيات جديدة وأوراق ووثائق، وكانت "أولاد حارتنا" حاضرة في كل ما يتعلق بنجيب محفوظ: عمله، حياته، رؤيته للعالم، جائزة نوبل، الحادث الذي كاد أن يودي بحياته، وحتى جنازته، بل بعد رحيله، هي نقطة ملتهبة، حياته قبلها لم تعد كحياته بعدها، وهكذا كانت البداية بسرد وقائع وأحداث هذه الرواية، ولم أكن أسعى من خلالها لإلقاء الضوء على نجيب محفوظ وحياته، بل على تاريخ الرقابة في مصر والذي تكاد أن تمثله "أولاد حارتنا".
هل كنت تتبع خطة بحثية صارمة لتغطية مواطن السيرة؟
كتبت "سيرة الرواية المحرمة" 3 مرات، في محاولة الوصول إلى صيغة مثلى، تجمع بين العمق من ناحية، والسلاسة من ناحية أخرى، كنت أحاول أن أسعى إلى البساطة التي طالبنا بها أستاذنا يحيى حقي بهدف ألا يسمع القارئ صرير القلم، وفي الوقت ذاته كل كلمة في الكتاب تستند إلى مصدر أو مرجع، كنت أحاول أن أترك للقارئ مساحة لكي يسأل، ويحاول أن يجيب بنفسه.
كان كتابي محاولة للسؤال أكثر من كونه محاولة لتقديم إجابات، لو أنني فعلت شيئا ذا قيمة فهو حث القارئ أن يذهب إلى المكتبة ويقرأ "أولاد حارتنا" ليحكم بنفسه على العمل، ليس مهما أن يعجبه العمل، ولكن أن يتوقف ليسأل هل يستحق عمل روائي أن يفصل كاتبه من عمله، أو أن تتعرض حياته للتهديد؟ لماذا يحدث ذلك؟ كثيرون ممن حاكموا محفوظ وحكموا عليه كانوا فخورين وهم يصدرون أحكامهم، وهم لم يقرأوا الرواية، بل لم يقرأوا أي عمل لصاحبها، وتلك هي الكارثة، كنت أكتب وأنا مستمتع، ولا أريد أن أنتهي، وأتمنى أن أكون استطعت أن أشرك القارئ معي في متعة المعرفة والكشف.
بالتأكيد من الظلم اختصار محفوظ في كونه مؤرخ مصر الحديثة، لأن ذلك يحول العمل الفني إلى مجرد دراسة أنثربيولوجية للمجتمع، مهملا تقنيات العمل الفني التي من أهمها التخيل، أو اللاحقيقة، واللعب باللغة وغيرها من تقنيات أضاف لها محفوظ الكثير، فعندما نقرأ الثلاثية على سبيل المثال نجد أنها تكشف الصراعات الفكرية والفنية والاجتماعية والسياسية في الفترة التي سبقت ثورة 1919 حتى قبل ثورة يوليو/تموز بداية من الأغنيات حتى الصراع حول تحرر المرأة.
وأنت على طريق رحلة "سيرة الرواية المحرمة"، ما أبرز العلامات التي تفتحت لك عن عالم نجيب محفوظ، وهل زادت اهتمامك بمشروعه؟
لم أكن أعمل من أجل التوصل لمؤشرات أو الكشف عن حقائق غائبة، وإنما من أجل المتعة، أنا مستمتع بالعمل، ربما في هذا مأزق شديد، كانت حياة محفوظ وأعماله بالنسبة لي أشبه ببحر الرمال العظيم، تغوص فيه ولا تستطيع الخروج، وما إن تطرح سؤالا حوله حتى تتوالد عشرات الأسئلة الأخرى، جذبني السرد أكثر، والغوص في الأرشيف الظاهر "الجرائد وحوارات الصحف"، وغير الظاهر المتمثل في "وثائق ومخطوطات لم تنشر".
إذا أردنا حقائق، أظن أن "أولاد حارتنا" كانت النقطة الملتهبة في حياة محفوظ، ولكنها لم تكن عمله الوحيد الذي تعرض للمصادرة والمضايقات، بل إن كل أعماله التي سبقت أولاد حارتنا وكثيرا من أعماله التي تلتها تعرضت لمضايقات، كما أن المصادرات لا تحدث نتيجة رغبة من السلطة الدينية ولكن من خلال تخالف بين السلطتين الدينية والسياسية، ودائما ما تكون برسالة من مواطن شريف قرأ وتأثر وخشى على أخلاقه، ربما يكون له وجود حقيقي أو مجرد مواطن متخيل يسعى للحفاظ على أخلاق المجتمع.
أردت للقارئ أن يقرأ بلا وصاية مني كمؤلف للكتاب ويصل لما يريد ويبحث عما كان غامضا، ويسعى للحصول على أعمال نجيب محفوظ نفسه ومن بينها أولاد حارتنا، ثم يقرر بنفسه تأويله الخاص للرواية، وبصراحة شديدة لا أدعي أن رحلتي يمكن أن تضيف شيئا للأدب العربي، ولا يعنيني ذلك، أكتفي بمتعتي وبمتعة من يقرأ إذا وجد في ذلك متعة، وليحدد النقاد إن كنت قد أضفت شيئا جديدا عن محفوظ أو لا.
بذِكر الإضافة للأدب والنقاد.. ماذا يعني لك وصول "سيرة الرواية المحرمة" للقائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد للكتاب؟
الوصول إلى القائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد للكتاب شرف كبير، لنزاهة الجائزة، وموضوعيتها، وحصول أسماء كبيرة عليها من قبل، ما يجعل اقتران اسمى باسمهم شرفا كبيرا، الأمر الآخر هو تكريم للعمل وقيمته، وتكريم لروح المغامرة، حيث إن الكتاب يتضمن مغامرة فنية في الجمع بين مناهج نقدية مختلفة، وفنون مختلفة، سواء لغة الرواية، أو روح المحقق الصحفي، ومغامرة الرحالة في الاكتشاف، بالتأكيد سعادتي ستتضاعف إذا ما حصلت على الجائزة.
هل تواصل كتابة الجزء الثاني من المشروع في الوقت الراهن؟
أعمل عليه، وربما حمسني أكثر على الإنجاز وصولي إلى القائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد، وربما حبا في قطبنا الكبير نجيب محفوظ الذي أتمنى أن تضيف أعمالي إلى ذلك المتن الهائل الذي تناول سيرته ونقد أعماله، ومشروعي المقبل سيكون بعنوان "سيرة الطفولة" ويتضمن سردا للسنوات الـ10 الأولى في حياة محفوظ، وسيُرفق بملحق وثائقي نادر لم ينشر من قبل لبعض أعماله، ثم أكمل المشروع بقراءة في المخطوطات التي تركها محفوظ، الذي وصف نفسه ذات مرة بأنه "ملك التمزيق"، وقال في إحدى جلسات الحرافيش إنه كان يجمع خلال فترة من الفترات كل ما يكتب عنه أولا بأول، بعد حين كان يرجع إلى ما جمعه يقلب فيه، فيجده مكررا بشكل أو بآخر، فأصبح يمزق كل ما يأتيه أولا بأول خشية أن يمتلئ البيت بالأوراق المعادة، ثم راح يمزق الباقي تدريجيا بعد أن عجز عن ترتيبه، ولكن الصدفة أتاحت لنا إنقاذ بعض مخطوطاته وأوراقه الشخصية.
وفى كتابي "أوراق نجيب محفوظ: مخطوطات ودفاتر" أقارن فيه المسودات الأولى لأعمال محفوظ ونصها النهائي، وسأقدم قراءة في مخطوطات وأوراق لنجيب محفوظ، والشحاذ، وميرامار، وأحلام فترة النقاهة، وأصداء السيرة الذاتية، فضلا عن رواية غير منشورة تنتمي لفترة البدايات كانت تمهيدا أو بروفة للثلاثية، ويوميات كتبها في فترات متفرقة، وقصص قصيرة، ولدي حتى الآن 41 مخطوطا، ومازالت الرحلة مستمرة للبحث عن مخطوطات أخرى سأتناولها في الكتاب الذي يكشف العديد من أسرار العمل الإبداعي لدى محفوظ وعلاقته بنصوصه وشخوصه الروائية، وطقوس الكتابة لديه.
وأعتقد أن هذا المشروع سيلقي الضوء على "مطبخ نجيب محفوظ السري"، والذي يكشف علاقته باللغة أثناء الكتابة، وهل كان يمارس الرقابة الذاتية فعليا أثناء الكتابة أم لا؟ وانتهيت من فصول الكتاب تقريبا، تتبقى المراجعة والهوامش وهي مرحلة صعبة وتستغرق وقتا، وأتمنى أن يصدر العام القادم.