انطلاق مباحثات لبنان وصندوق النقد.. والشعب يدفع الثمن
وفق آخر تقديرات البنك الدولي فقد وصلت نسبة الفقر إلى 55% في لبنان الذي يعاني بطالة وأزمة سيولة وعجزا في الميزان التجاري
يتفاقم الوضع المعيشي في لبنان نتيجة ارتفاع سعر صرف الدولار إلى أعلى مستوياته منذ عشرات السنوات، ما انعكس على فوضى في أسعار المواد الغذائية وعدم قدرة اللبنانيين على تأمين حاجياتهم اليومية خاصة الذين فقدوا وظائفهم في الأشهر الأخيرة نتيجة الأزمة الاقتصادية غير المسبوقة.
وفيما تتجّه الأنظار إلى ما سينتج عن مباحثات لبنان مع ممثلي صندوق النقد الدولي التي تبدأ اليوم، وفق ما نصت عليه خطة الحكومة الإصلاحية، يرى خبراء أن شروط وإجراءات الصندوق ضرورية، لكنّ المشكلة أنها تأتي في مرحلة اقتصادية صعبة، بعدما فشلت السلطة في تنفيذ الإصلاحات، وهو ما سيزيد من حدّة الأزمة المعيشية بالنسبة إلى اللبنانيين الذين يدفعون ثمن فشل السياسات خلال السنوات السابقة.
- الرئيس اللبناني يعتبر دعم صندوق النقد "ممراً إلزامياً" لتعافي الاقتصاد
- بحثا عن سر الليرة المتدهورة.. لبنان يعتقل "نقيب الصرافين"
وكانت الحكومة اللبنانية قد أقرّت في نهاية أبريل/نيسان الماضي خطة إصلاحية وطلبت مساعدة صندوق النقد الدولي. وتأمل بالحصول على أكثر من 20 مليار دولار فيما تبلغ ديون لبنان 92 مليار دولار. وتقترح الخطة التقشفية الممتدة على خمس سنوات إصلاحات على مستويات عدة بينها السياسة المالية وميزان المدفوعات والبنى التحتية، وإعادة هيكلة للديون والمصارف.
لكنها تسفر أيضا عن إجراءات موجعة تطال المواطنين مباشرة على غرار تجميد التوظيف في القطاع العام وخفض عدد المتعاقدين وعدم ملء آلاف الوظائف بعد تقاعد من يشغلها باستثناء المواقع الحساسة. وتعتمد الخطة تقدير سعر الصرف بـ3500 ليرة مقابل الدولار، بعدما كان مثبتا طوال عشرات السنوات على حوالي 1500 ليرة.
- فوضى صرف الدولار وارتفاع الاسعار
مع تدهور الوضع الاقتصادي في لبنان ظهرت في البلاد للمرة الأولى منذ عقود سوق موازية، انخفضت فيها قيمة العملة المحلية تدريجياً إلى أن لامست قبل أيام الـ4400 ليرة فيما سعر الصرف الرسمي ما زال مثبتاً على 1507.
وتشهد البلاد منذ أشهر أسوأ انهيار اقتصادي في تاريخها الحديث مع نقص حاد في السيولة وتراجع كبير في الاحتياطات الأجنبية.
وأمام الإنهيار المتسارع، طلب مصرف لبنان نهاية الشعر الماضي من الصرافين بألا يتخطى سعر بيع الدولار 3200 ليرة. إلا أنه منذ ذلك الحين سجّلت الليرة انخفاضاً غير مسبوق في قيمتها لتتخطى اليوم عتبة 4300 ليرة مقابل الدولار الأمريكي الواحد في السوق السوداء.
وخلال الأسبوعين الماضيين، شنت القوى الأمنية حملة ضد الصرافين الذي أغلقوا مكاتبهم احتجاجا ثم أوقف نقيبهم على خلفية التلاعب بسعر صرف الدولار، وبات كثر منهم يعملون بالخفاء، فيما واصلت الليرة انهيارها.
ومنذ أيلول/سبتمبر الماضي، تفرض المصارف إجراءات مشددة على العمليات النقدية وسحب الأموال. وفاقم انتشار فيروس كورونا المستجد من الأزمة بعدما امتنعت المصارف عن تزويد زبائنها بالدولار تماماً.
وفي نيسان/أبريل 2020، طلب مصرف لبنان المركزي من المصارف تسديد سحوبات الزبائن من ودائعهم بالدولار بالليرة اللبنانية. وقد حددت المصارف سعر الصرف لديها بثلاثة آلاف ليرة.
ويؤدي شحّ السيولة بالدولار وارتفاع سعر صرفة ارتفاعا جنونيا بأسعار السلع الاستهلاكية والغذائية التي اختفت أنواع كثيرة منها من الأسواق، نتيجة عدم القدرة على استيرادها.
ويقول مدير الابحاث في معهد عصام فارس بالجامعة الأمريكية في بيروت، الدكتور ناصر ياسين، لـ"العين الإخبارية" "ما يحصل في الأسواق اللبنانية هو نتيجة للوضع الاقتصادي والنقدي في لبنان حيث ميزان المدفوعات سلبي ولا دولارات متوافرة.
ويضيف "وبالتالي من الطبيعي أن يؤدي إلى ارتفاع سعر صرف الدولار الذي بقي مثبتا لعشرات السنوات بدل أن يتم تحريره على مراحل، وإذ به اليوم يتحرّر بشكل مفاجئ ويترك تداعياته السلبية على كل القطاعات".
وفيما يلفت ياسين إلى أن أسعار المواد الاستهلاكية ارتفعت أكثر من ثلاث مرات خلال أسابيع، يشير إلى أن هذا التحرير غير الرسمي لسعر الصرف الذي نتج عنه حوالي 8 أسعار للدولار أدى إلى فوضى في الأسعار حيث بات التجار يضعون التسعيرات كما يشاؤون ودخلنا في تضخّم مفرط".
- إجراءات صندوق النقد الدولي
أعلنت رئيسة صندوق النقد الدولي كريستالينا جورجيفا الأسبوع الماضي أنها توافقت مع رئيس الحكومة اللبنانية حسان دياب على أن يبدأ فريقا الصندوق والحكومة اللبنانية البحث في الإصلاحات الأهم التي تؤمن الاستدامة وإعادة الاستقرار والنمو في لبنان ولمصلحة اللبنانيين.
وفي هذا الإطار يقول الدكتور ناصر ياسين لـ"العين الاخبارية" "سننتظر كيف تنتهي المفاوضات مع صندوق النقد لكن يبدو أن خطة الحكومة الاقتصادية قد سلّمت بالشروط التي عادة ما يضعها وهي مما لا شك فيه ستكون قاسية في أقسام كثيرة خاصة بالنسبة إلى الطبقتين الفقيرة والوسطى وتحديدا الموظفين والعمال، بحيث تحدثت الخطة عن إجراءات إصلاحية تطال على سبيل المثال تخفيف الانفاق وصرف موظفين في القطاع العام، من دون أن تولي الاهتمام كيف سيكون وضع هؤلاء بعد الاجراءات التي ستطالهم أو بعد إيقاف الاستفادة من تقديمات الدولة لهم.
وفيما يرى ياسين أن جزءا كبيرا من إجراءات الصندوق هو مطلوب ولابدّ منه في وضع مثل لبنان، يرى أن المشكلة أتت في التوقيت وعما إذا كانت ستنفذ بطريقة سليمة ودقيقة، بحيث أن الدولة أهملت هذا الأمر لسنوات طويلة وانتشر الفساد والهدر، حتى ساء الوضع الاقتصادي والنقدي لدرجة غير مسبوقة، بحيث أنه بات اللبنانيون غير قادرين في هذه المرحلة على تحمل هذه الإجراءات.
ويضيف " كل ما وصلنا إليه هو نتيجة الفشل المتراكم في إدارة أمور الدولة والقطاع العام حيث كنا استطعنا تفادي كل ذلك لو قامت الدولة بدورها ونفذّت كل الخطط والمشاريع السابقة التي أنجزت وشددت على اهمية الاصلاحات، ومنها مؤتمري باريس 2 و 3 في عامي 2002 و 2007 .
ويلفت ياسين إلى أن القطاعات التي تعتبر المكمن الأساسي للهدر والفساد في لبنان معروفة، ولو بدأت بها الدولة منذ 12 عاما كانت قد ساهمت في خفض الدين العام والعجز، وأهمها الكهرباء وإدارة القطاع العام إضافة إلى إدارة المناقصات حيث السمسرات والمحاصصة، وهي التي سترتكز عليها اليوم شروط صندوق النقد. ويضيف "لكن المشكلة اليوم في أن الشعب المنهك أصلا هو الذي سيتحمل عبء هذه الإجراءات التي سيفرضها صندوق النقد في الوقت الذي بات فيه البلد مفلس، وسيؤدي أيضا التعاون مع المؤسسة الدولية إلى خسارته استقلاليته الاقتصادية".
بدوره يقول الخبير الاقتصادي اللبناني جاسم عجاقة، أن الخطة الاقتصادية ليست أكثر من عناوين عريضة لاصلاحات بهدف إرضاء صندوق النقد لكنها تفتقد إلى الخطوات العملية، ومنها على سبيل المثال محاربة الفساد واستعادة الأموال المنهوبة.
وفيما يلفت إلى أن الفوضى اليوم في سعر صرف الدولار هي نتيجة السياسات الخاطئة، يؤكد عجاقة أنه إذا تم تحرير سعر صرف الليرة، بحسب ما جاء في الخطة ليصل في العام 2024 إلى 4200 يعني أننا قادمون على انفجار اجتماعي، مضيفا"الأرقام التي نصت عليها الخطة ليست إلا توقعات أكثر منها أرقام علمية ولا تأخذ بعين الاعتبار الواقع اللبناني".
من جهته يقول الباحث في الشؤون المالية والمصرفية في جامعة دبلن محمود فاعور لوكالة الصحافة الفرنسية إن تطبيق الإصلاحات يعتمد "على مدى تعاون الطبقة السياسية عبر تشريعها في البرلمان"، مبدياً قلقه من أن تحول "المشاحنات السياسية" دون ذلك.
ويضيف "يمكن للبنان أن يقف مجددا مع إصلاح متين يحظى بدعم دولي، لكن القلق الرئيسي هو ما إذا كانت السياسة الداخلية ستسمح بتنفيذ أي خطة ذات مصداقية".
ويلخص مركز "كارنيجي" للشرق الأوسط في أحد منشوراته الأزمة الاقتصادية بأنها "في جوهرها أزمة حوكمة مُنبثقة من نظام طائفي يعاني من خلل بُنيوي، ما حال دون صنع سياسات عقلانية وسمح بانتشار ثقافة الفساد والهدر".
مع العلم أنه ووفق آخر تقديرات البنك الدولي فقد وصلت نسبة الفقر إلى 55% في لبنان الذي يعاني بطالة وأزمة سيولة وعجز في الميزان التجاري.
- الخطة الاقتصادية.. الأهمية تكمن في التنفيذ
وكانت قد لاقت الخطة الاقتصادية التي اعنلتها الحكومة الاسبوع الماضي، ردود فعل متباينة، إذ فيما رحّبت بها جهات لبنانية ولا سيما الأحزاب المتمثلة في الحكومة، ولا سيما حزب الله والتيار الوطني الحر وحلفائهما إضافة إلى بعض الديبلوماسيين، شكّك آخرون لا سيما الأحزاب المعارضة كما الحراك الشعبي في إمكانية نجاحها منطلقين في ذلك من التجارب اللبنانية السابقة والمشاريع والخطط التي كانت توضع لكن لم تجد طريقها إلى التنفيذ.
وقال رئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع إن "هناك العديد من الخطط الاقتصادية في البلاد والمشكلة لا تكمن في الخطط بحد ذاتها وإنما بالتنفيذ، لذلك أتى موقفنا الذي أبلغناه للحكومة في أن عليها أن تبدأ بالخطوات الإصلاحية أولا ومن بعدها نحن مستعدون للنظر بأي خطة كانت".
من جهته، قال دبلوماسي غربي لوكالة رويترز "التنفيذ هو الجزء الأصعب، ولبنان يفشل باستمرار في هذا. التقدم لن يكون ممكنا إلا بهذا وعلى أساس من توافق سياسي وشعبي أكبر."
وكانت فرنسا رحّبت بالخطة الاقتصادية التي أقرها لبنان ودعته إلى تنفيذ سلسلة من الإصلاحات دون تأخير ليتسنى له الاستفادة من الدعم المالي الدولي.
وقالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الفرنسية في بيان "أقرت الحكومة اللبنانية خطة اقتصادية وقررت طلب برنامج (مساعدة) من صندوق النقد الدولي. هذه قرارات مهمة لإيجاد حل للأزمة الجسيمة التي تواجهها البلاد".
وفي حديث تلفزيوني قال رئيس الحكومة السابق فؤاد السنيورة أمس الأحد، "الحكومة أضاعت وقتا طويلا وثمينا يتعدى الخمسة أشهر، كان بالإمكان توظيفها من أجل الحد من التردي المتعاظم في الأوضاع الاقتصادية والمالية والنقدية والحد من الانهيار الحاصل الآن".
وشدد على أن "الإصلاح أمر تقوم به الأمم عندما تكون قادرة عليه، وليس عندما تصبح مجبرة عليه، إذ في هذه الحال، تكون كلفة العملية الإصلاحية أكبر بكثير وآلامها وأوجاعها أشد بكثير، وهذا بالضبط ما وصلت إليه حال لبنان".
وأضاف "لذلك، لا وهم لدى أي أحد في لبنان أو في الخارج أن برامج الإصلاح التي يمكن أن يعتمدها لبنان قادرة على الانتقال الفوري إلى حال التعافي الكاملة ومن دون آلام كبيرة، وهي العملية التي أصبحت الآن تتطلب وقتا أطول".