يصعُب على القارئ المتبصِّر؛ عند دراسة تاريخ الدول، وتحوُّلات الشعوب، أن يتجاوز الأوقات المفصلية التي غيَّرت مصائر الأوطان.
وفي الحالة السودانية يُعدُّ وقت انقلاب عام 1989 -الذي أوصل عمر البشير، الرئيس السوداني الأسبق، إلى السلطة بتخطيطٍ وتنفيذٍ من الحركة الإسلامية السودانية (الجناح المحلي لتنظيم الإخوان المسلمين)، وأسّس لما عُرف لاحقًا بنظام "الإنقاذ"- من أكثر هذه الأوقات قتامةً؛ فقد شكَّل ذلك الانقلاب بداية مسار طويل من الفشل، والانعزال، والاحتراب الداخلي، لا تزال آثاره الكارثية تتردَّد حتى اليوم.
ولم يكن هذا النظام مجرد سلطة انقلابية؛ بل تحوَّل السودان، تحت حكمه، حاضنةً للجماعات الإرهابية العالمية. ويكفي أن نذكر أن أسامة بن لادن، زعيم تنظيم القاعدة، وجد في السودان منفًى آمنًا في المدَّة بين عامَي 1991 و1996؛ استخدمه لتنسيق تهديداته ضد دول الخليج العربية والعالم. كما أن هذا النظام لم يتورَّع عن التخطيط لعمليات نوعية تمسُّ الأمن القومي العربي، وعلى رأسها محاولة اغتيال حسني مبارك، الرئيس المصري الأسبق، في أديس أبابا عام 1995، بالتعاون مع الجماعة الإسلامية المصرية.
وقد جرَّ هذا السلوك على السودان عزلة دولية خانقة، وعقوبات اقتصادية طويلة، كان المواطن السوداني البسيط أول من دفع ثمنها؛ ولكنَّ الأخطر من العقوبات هو ما خلَّفته هذه المرحلة من اختراق فكري ومؤسساتي عميق داخل القوات المسلحة السودانية، وأجهزة الدولة الأمنية، التي لا تزال حتى اليوم تُدار بروح الحركة الإسلامية؛ برغم سقوط النظام سياسيًّا عام 2019.
ومن هنا يمكن فهم ما يجري اليوم في السودان؛ ليس بصفته صراعًا طارئًا بين قوًى مسلحة؛ بل بصفته امتدادًا طبيعيًّا لمنظومة أمنية عقائدية تعادي التعدد، وتختزل الوطنية في الولاء للأيديولوجيا؛ فالمؤسسة العسكرية السودانية، التي تمثل سلطة الأمر الواقع في بورتسودان، لها سجلٌّ دامٍ تجاه سكان الهامش السوداني، وعلى رأسهم أبناء دارفور وكردفان؛ ولا يمكن تجاهُل أن قواتِ هذه المؤسسة قتلت مئات الآلاف من السودانيين في أثناء العقود الماضية، في حروب كانت في جوهرها احتجاجًا على التهميش، والتمييزين الطبقي والجهوي.
ولكن بدلًا من الاعتراف بالأخطاء؛ والعمل على تصحيحها، واصلت السلطة العسكرية نهجها العنيف؛ وهو ما يتجلَّى بوضوح في الحرب الحالية التي اندلعت منذ أبريل/نيسان 2023 بين القوات المسلحة السودانية؛ وقوات الدعم السريع؛ إذ شنَّت هذه السلطة غارات جوية عشوائية استهدفت بها المدنيين، ورفضت أيَّ مسار تفاوضي حقيقي نحو إنهاء هذا النزاع. وهذا الإصرار على "الحسم العسكري" لا يزيد الوضع إلا تعقيدًا؛ ويكرِّس الانقسام الأهلي، ويعمِّق الكارثة الإنسانية والدمار الاجتماعي والاقتصادي في البلاد.
وما يثير الاستغراب هو محاولة هذه السلطة تبرئة نفسها عبر تحميل أطراف خارجية، على رأسها دولة الإمارات العربية المتحدة، مسؤولية ما يحدث، وهي محاولة تتجاهل دور دولة الإمارات المشهود له في دعم السودان خلال المدة الانتقالية؛ وأبرز ذلك كان إسهاماتها المحوريَّة في رفع السودان من قائمة العقوبات الأمريكية بعد سقوط البشير.
والحقيقة التي يجب ألَّا تغيب عن الوعي الجَمْعِي هي أن الجهة التي تتحمَّل المسؤولية الكبرى عن معاناة السودان، قديمًا وحديثًا، هي هذه المنظومة الحاكمة التي ورثت فكر "الإنقاذ"، واستبقَت أدواتها الأمنية والسياسية، ولا تزال تمارس السياسات القمعية والإقصائية نفسها، التي أوصلت السودان إلى حافة الانهيار.
لقد آن الأوان لمصارحة النفس، والاعتراف بأن إعادة بناء السودان تبدأ فقط بتفكيك إرث الحركة الإسلامية داخل مؤسسات الدولة، والقطع مع منطق العنف بصفته أداةَ حكم، والعودة إلى مشروع وطني جامع يعيد إلى السودانيين كرامتهم ووحدتهم.
نقلا عن موقع "مفكرو الإمارات"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة