قيمة الأفكار الحقيقية بما تحدثه من تغيير في حياة الإنسان والمجتمع، وقيمة الأيديولوجيات السياسية بما تحققه من تقدم ورقي.
قيمة الأفكار الحقيقية بما تحدثه من تغيير في حياة الإنسان والمجتمع، وقيمة الأيديولوجيات السياسية بما تحققه من تقدم ورقي في مجتمعاتها ودولها، حتى الأديان إنما جاءت لتغيير حياة الناس للأفضل، والارتقاء بهم في درجات الفضيلة الإنسانية، أما أن تكون الأفكار كلمات فارغة من المعاني، مملؤة بالفراغ القيمي والأخلاقي، وأن تكون الأيديولوجيات السياسية مجرد وسيلة لعصابات من البشر يرتزقون منها، ويخدعون الآخرين حتى يخضعوهم بها؛ فتلك حالة الأحزاب التي استغلت الدين لتحقيق مصالح سياسية مؤقتة، ثم زالت كأنها لم تكن هنا.
درس السودان والسعودية بالنسبة لكل المنتسبين للحركات السياسية التي توظف الإسلام للوصول إلى السلطة درس عظيم يحتاج إلى تأمل عميق؛ لاستمداد الدروس والعبر للمستقبل، ولكنْ للأسف المتكبرون المغرورون لا يتعلمون، دائما عندهم شماعة المؤامرة تساعدهم على الحفاظ على تمجيد ذواتهم، وتبرئة أنفسهم الأمارة بالسوء.
ثلاثون عاماً في دولة كبيرة عظيمة الموارد والقدرات، وأربعون عاماً في قلب العالم الإسلامي؛ والحصاد سراب كبير، كأن الحركة الإسلامية في السودان والصحوة الإسلامية في السعودية كانتا سحابة صيف حار ثم زالت ولم تنزل مطراً أو يبقى منها أثر. كان الظاهر يقول إن الحركة الإسلامية السودانية قد نجحت في تغيير المجتمع لصالحها، وأنها حققت كل متطلبات دولة التمكين التي يحلم بها الإخوان منذ نشأة تنظيمهم، وأنها استطاعت أن تغرس قيمها ومبادئها في قلب السودان الكبير، وأنها ضحت بالجنوب طواعيةً واختياراً من أجل تحقيق "أسلمة المجتمع" وتطبيق الشريعة.
كان الظاهر يقول شيئاً مختلفاً تماماً عما ظهر بعد الثورة على نظامهم وعزل رئيسهم، وإذا بالحركة الإسلامية في السودان ليست إلا مجرد قشرة رقيقة من التجهم والكراهية والكبر والفساد؛ كانت تعلو وجه السودان السمح الجميل، وأنها مجرد تحالفات من أصحاب المصالح والطامحين الطامعين في المكانة والثراء والعيش الرغيد، وأن غاية وجودهم هي محاولات تدبير انقلابات ضعيفة خائبة فاشلة لإرجاع ساعة الزمن إلى الوراء.
موجات الشباب الهادر في مختلف مدن السودان تقول إن الحركة الإسلامية مرت من هنا مرور غير الكرام، مُحيت آثارها في لحظة، كأنها لم تكن هنا، وكأن الثلاثين عاما كانت مثل غفوة أهل الكهف؛ مجرد لحظة عابرة، مُحيت بشعارات بسيطة وكلمات قليلة؛ "ارحل بس". كل النظريات والأفكار الكبرى لأساطين الحركة الإسلامية السودانية طيرتها أصابع "الكنداكة" وهي تهتف "سجنونا باسم الدين.. حرقونا باسم الدين.. حقرونا باسم الدين.. قتلونا باسم الدين.. والدين بريء يا أماه".
سيذكر التاريخ أن "إخوان" السودان مروا من هنا، مرور الكرام أو غيرهم، ولم يبق منهم أثر ولا حجر؛ كأنهم طيف خيال أو سراب كنا نحسبه ماءً، ولم نجده شيئا، حالة بائسة من ضياع أعمار البشر، وفرص الدول والمجتمعات. حالة بائسة من مركب الفشل الذي لا يسمح لصاحبه بأن يعترف بالفشل.
لم تتح فرصة لتنظيم الإخوان الفاشل في جوهر فكره وتركيبة عقليته؛ كما أتيحت في السودان الكبير الغني بكل الموارد، ثلاثون عاما من الحكم المطمئن بدون انقلابات، أو منغصات، تنازلوا عن نصف السودان من أجل إصلاح النصف الآخر، وفي النهاية أضاعوا النصفين. ثلاثون عاما لم تدمع عليهم عين، ولم يأس عليهم قلب. جيل كامل ممن ولدوا وتربوا وكبروا على يد دولة التمكين، حين كبروا أسقطوا دولة التمكين.. أي فشل يعادل هذا الفشل؟
وفي الضفة الأخرى من البحر الأحمر، حيث قلب العالم الإسلامي وقبلته، تمكنت "الصحوة" من المجتمع، وتحقق لها التمكين الاجتماعي، وسيطرت على كل وسائل صناعة وتشكيل العقول والقلوب، برز منها نجوم ملأوا شاشات الفضائيات لعقود، وأُتيحت لهم موارد لم تتح لأي كيانات أيديولوجية أخرى، لا قومية ولا بعثية ولا يسارية ولا ليبرالية، كانت لديهم موارد وإمكانيات تصنع عالما كاملا على صورة مثالية، ولكن عبقرية الفشل كانت حاكمة على هذه الصحوة، بمجرد أن رفع عنها الغطاء، ولم تعد تتحكم في العقول والقلوب بقوة السلطة، وليس بقوة الفكر والرأي، خلع المجتمع كل ما جاءت به الصحوة، وتبرأ منها، بل إن قادتها أنفسهم تبرأوا من أنفسهم، مثلما فعل أحد كبار دعاتهم.
أربعة عقود ضائعة من عمر مجتمع وأجيال من البشر، ما أن أُعطي المجتمع الفرصة للاختيار حتى عاد إلى كل شيء كان قبل الصحوة بشوق وشغف شديدين، بصورة تقول للمراقب إن الصحوة كانت غفوة، بل كانت نوما عميقاً مليئاً بالكوابيس والأحلام المزعجة، ما أن أفاق الإنسان حتى انطلق في الحياة يفعل عكس ما كانت تفرضه عليه تلك الحركة السياسية التي تنتسب إلى تنظيم الإخوان الفاشل في جوهرها، وإن أعطت بعض المظاهر السلفية لتمرير خطابها.
هؤلاء الصحويون أو إخوان السعودية وأولئك الإسلاميون أو إخوان السودان مروا من هنا، ولم يبق بعدهم أثر ولا حجر، ولم تحفظ لهم القلوب صنيعاً جميلاً، بل خلقوا حالة عكسية لدى الشباب، قد تقود بعضهم إلى البعد عن الدين، حين لا يدركون الفارق العظيم بين دين القيم والأخلاق والخير والمطلق، وتجار الدين المجرمين الذين كان همهم ذواتهم وملذاتهم.
درس السودان والسعودية بالنسبة لكل المنتسبين للحركات السياسية التي توظف الإسلام للوصول إلى السلطة درس عظيم يحتاج إلى تأمل عميق؛ لاستمداد الدروس والعبر للمستقبل، ولكنْ للأسف المتكبرون المغرورون لا يتعلمون، دائما عندهم شماعة المؤامرة تساعدهم على الحفاظ على تمجيد ذواتهم وتبرئة أنفسهم الأمارة بالسوء.
نقلاً عن "الأهرام"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة