يسود القلق الشعب التونسي تجاه مستقبل البلاد بعد مرحلة اصطفاف وطني خلف رجل استطاع بحنكة وحكمة سياسية أن يعبر بتونس إلى شاطئ الاستقرار.
يسود القلق عند الشعب التونسي تجاه مستقبل البلاد بعد مرحلة اصطفاف وطني خلف رجل استطاع بحنكة وحكمة سياسية أن يعبر بتونس إلى شاطئ الاستقرار السياسي وكأنه عنصر توازن بين مختلف الفرقاء السياسيين والضمانة لتجربة الانتقال الديمقراطي، الرجل ترك حصيلة يغلب الرصيد الإيجابي فيها على السلبي.
السؤال الذي يبحث عن إجابة: هل سيعود مسلسل الصراعات الأيديولوجية الحادة التي عاشتها تونس وكل محطاتها الانتخابية منذ أكثر من 60 سنة بعد أن أوقفه السبسي من خلال سياسة التوافق؟ وهل سيصمد الاستثناء الديمقراطي التونسي في واقع عربي ودولي متأزم أم العكس؟
وأولى الإيجابيات التي تحسب له، أن رحيله لم يترك فراغا دستوريا، بل إن المراقبين فوجئوا بالانتقال السلس والسريع للسلطة بعد وفاته، حيث تولى مباشرة رفيق دربه محمد الناصر رئيس البرلمان، منصب رئيس الجمهورية المؤقت بناء على الدستور التونسي الصادر عام 2014 في الفصل 84 لفترة أدناها 45 يوماً وأقصاها 90 يوماً، وأعلن عن موعد مبكر للانتخابات الرئاسية، وترك بلدا تنظم فيه انتخابات حرة ونزيهة.
ثانيا: عندما كان حزب النهضة وحلفاؤهم قد انجرفوا في اتجاه تمكين الإسلاميين بعد أول اقتراع بعد الثورة، أسس الباجي قائد السبسي في يوليو عام 2012 حركة نداء تونس، كمشروع سياسي جديد، شكك كثيرون في مستقبله ونعتوه بأنه ثورة مضادة وعودة لنظام بن علي، لكن السبسي كسب الرهان ونالت نداء تونس الأغلبية النسبية في الانتخابات التشريعية، وبفوزه كأول رئيس تونسي منتخب تمكن من قلب المعادلة ليحدث التوازن مع حزب النهضة والإسلاميين.
وتمكن بفضل حنكته من قيادة الحوار بين مختلف التيارات السياسية ومن نزع فتيل أزمة كانت ستقود تونس إلى مواجهة مجهولة العواقب، كما حافظ بعد توليه الرئاسة على شعرة معاوية، ونأى بدوره كرجل دولة محنك ورئيس لكل التونسيين عن التورط في الحسابات السياسية الضيقة، الأمر الذي ساعد على تحقيق قدر نسبي من تقدم عملية الانتقال الديمقراطي.
وانشغل السبسي منذ عودته، على تدبير السياسة بالمنهج البورقيبي، حيث لعب كثيرا على حضوره الشخصي وعلاقاته مع أغلب الفاعلين السياسيين، وراهن على أن التوافق يمثّل ترياقا سحريا لفك المعضلات، بما قد يتجاوز أحكام ونتائج الانتخابات، وتفضيله الحوار والتوافقات، فكانت وثيقة قرطاج أدلة على تلك المدرسة السياسية وما أنتجته من مخارج وحلول، وبهذا المعنى سيكون أثر غياب السبسي بنفس قدر أثر حضوره، وسيحمل رحيله نفس الجلبة التي أفرزتها عودته إلى الساحة السياسية التونسية بعد الثورة.
ثالثا يعترف كثير من المراقبين بأن السبسي الرئيس، ورغم صلاحياته المحدودة دستوريا، نجح في رسم خيارات واضحة وجريئة في مرحلة حساسة من تاريخ تونس، فقد صمد الرجل في مواجهة الإرهاب وفي مواجهة سعي النهضة للسيطرة على الحكم بشكل منفرد، وكافح من أجل تمتين التعاون مع الشركاء في أوروبا ودول الخليج لتوفير الدعم الاقتصادي للديمقراطية الناشئة، وبأسلوب حيادي ذكي، يتلاءم مع حجم تونس الجيوستراتيجي، قطع الطريق على بعض الأطراف المحلية والإقليمية التي كانت تتربص لإسقاط الدولة الوطنية ودخولها في ثورة ربيع أخرى.
من الجانب الآخر، تستيقظ تونس اليوم على بعض المؤشرات التي تبعث القلق في محيط إقليمي متقلب؛ المؤشر الأول، تونس البلد الصغير جغرافيا ليست بمنأى عن مخاطر الحرب الأهلية في ليبيا، وحالة المخاض السياسي العسير في الجزائر، خاصة وأن هذا البلد يعاني من وجود موجات من الحركات الإسلامية المتطرفة أولها جماعة الإخوان المسلمين متمثلة في حزب النهضة المشارك في السلطة والمتهم أمام القضاء التونسي ولدى الرأي العام بأنه يمتلك جناحا عسكريا خفيا وأجنحة مالية واقتصادية تعمل بشكل غير شرعي، فضلا عن وجود جماعات متشددة إرهابية ذات علاقات بنظيرتها في ليبيا.
أما المؤشر الثاني، بقدر ما ساهمت شخصية السبسي في قيادة مرحلة انتقالية صعبة وفي بناء حزب نداء تونس الذي أحدث به التوازن، إلا أن الحزب سقط في انقسامات داخلية بعدما ظهرت طموحات نجل الرئيس في وراثة الحكم من أبيه، وتسبب في صراع علني مع رئيس الحكومة يوسف الشاهد، كاد أن يؤدي إلى انهيار الائتلاف الحاكم وبالتالي تصاعد هيمنة النهضة مرة أخرى.
المؤشر الثالث، ترك السبسي تونس على أبواب انتخابات رئاسية وتشريعية حبلى بالمفاجآت، وفي سياق سياسي تونسي موسوم بالتأزم ليس وليد اللحظة الراهنة، بل تعاونت على صنعه وتعميقه كل الأطراف السياسية ولو كان بتفاوت، ومع عدم بروز أسماء بعينها، الغموض لازال يحيط بخيارات الأحزاب السياسية كنداء تونس والنهضة والتيار الديمقراطي والحراك وتحيا تونس والعمال الشيوعي وقلب تونس، يظل الرئيس القادم محل تكهنات وافتراضات عديدة، وستشهد تنافساً حاداً بين مرشحين قد تكون لهم حظوظ متقاربة، يسعى كل منهم للوصول إلى قصر قرطاج، رغم الصلاحيات المحدودة لرئاسة الجمهورية.
المؤشر الرابع، إذا كان يُحسب للرئيس السبسي أنه صوت دولة القانون ووقف ضد محاولات الخروج عن المسار الديمقراطي، إلا أنه لم يكن حاسما في استكمال بناء مؤسسات دستورية حساسة وخصوصا المحكمة الدستورية التي تأخر إنجازها. وجود المحكمة الدستورية يسد المعضلات والسيناريوهات الخطيرة التي يمكن أن تؤول إليها الأوضاع، من قبيل عدم قدرة رئيس مجلس نواب الشعب على مباشرة نشاطه، خاصة وأنه عانى مؤخرا من مشاكل صحية كثيرة، أو غيرها من الاحتمالات التي يمكن أن تستجدّ.. غياب هذه المؤسسة أدى إلى اندلاع أزمات سياسية حادة، متصلة بتأويل أحكام وفصول الدستور، حيث كانت تلك المحكمة هي المخوّل الوحيد لحسم تلك الاختلافات التي ظهرت في مناسبات متعددة مثل تحديد وتوضيح صلاحيات الرئيس وتقاطعها مع صلاحيات رئيس الحكومة، باعتبار أن دستور 2014 لم يحدد الصلاحيات بدقة، وتعتبر مساحة ضبابية.
السؤال الذي يبحث عن إجابة: هل سيعود مسلسل الصراعات الأيديولوجية الحادة التي عاشتها تونس وكل محطاتها الانتخابية منذ أكثر من 60 سنة بعد أن أوقفه السبسي من خلال سياسة التوافق؟ وهل سيصمد الاستثناء الديمقراطي التونسي في واقع عربي ودولي متأزم أم العكس؟ وهل تقنع حرب ليبيا وأحداث الجزائر وبقية أزمات المنطقة ملايين الناخبين بالدفاع عن مسارهم السياسي السلمي والتوافقي، أم تنتقل إليهم عدوى العنف المادي الذي انتشر في كثير من دول المنطقة؟
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة