حرب القواعد هذه جاءت على وقع اتفاقية أمريكية تركية وأخرى روسية تركية، لوقف إطلاق النار في شمال شرق سوريا، دون أن تتوقف الهجمات حتى الآن.
تحولت محافظة الحسكة في أقصى شمال شرق سوريا إلى سوريا مصغرة، لا بتعددها القومي والديني فحسب، بل بتزاحم الدول المعنية بالأزمة السورية، حيث تحولت المحافظة إلى مركز للتنافس بين هذه الدول، على شكل إقامة قواعد ومقار عسكرية هناك.
مع التأكيد أنه لا مواجهة أمريكية – روسية في سوريا، يبقى الهدف المشترك للطرفين هو نقل الأزمة السورية التي استنزفت الجميع إلى مرحلة جديدة، هي مرحلة كيفية إخراج تركيا وإيران من سوريا.
حتى وقت قريب، كانت المحافظة الواقعة تحت النفوذ الأمريكي في ظل الإدارة الذاتية الكردية تعيش في هدوء واستقرار، لكن سرعان ما تغير المشهد مع بدء العدوان التركي الذي أطلق عليه عملية (نبع السلام)، إذ تحركت خرائط السيطرة والنفوذ، فالإدارة الأمريكية بدت متخطبة، ومشغولة بالنفط وحده بعد هزيمة داعش، وعليه سحبت قواتها من العديد من القواعد العسكرية هناك قبل ان تقرر بناء قاعدتين جديدتين في القامشلي والإبقاء على 600 مئة جندي.
في المقابل تحركت روسيا بقوة، فسرعان ما بادرت قواتها إلى التقدم شرقاً نحو مدن مبنج وكوباني – عين العرب وعين عيسى لتلتحق بها قوات الجيش السوري، القوات الروسية حرصت أيضاً على السيطرة على القواعد العسكرية التي انسحبت منها القوات الأمريكية، قبل أن تفاجأ العالم بإقامة قاعدة عسكرية في مطار القامشلي لتكون الثالثة لها في سوريا بعد حميميم وطرطوس، بدورها تركيا التي احتلت قواتها المنطقة الواقعة بين تل أبيض ورأس العين (سري كانييه) انتهزت الفرصة لإقامة قاعدة عسكرية لها في قرية الحواس جنوبي رأس العين.
حرب القواعد هذه جاءت على وقع اتفاقية أمريكية تركية وأخرى روسية تركية، لوقف إطلاق النار في شمال شرق سوريا، دون أن تتوقف الهجمات التركية حتى الآن، وكذلك في تسيير قوات هذه الدول دوريات مشتركة على طول المنطقة الحدودية التركية– السورية الممتدة من منبج غربا إلى المالكية - ديرك شرقاً على نهر دجلة، في ظل تطورات تجعل من كل هذه الاتفاقيات والتفاهمات مرحلية وغير مكتملة.
في حرب إقامة القواعد العسكرية، ثمة أسئلة كثيرة تطرح، لعل أهمها: "لماذا كل هذه القواعد في هذه البقعة الجغرافية تحديداً؟" "ولمن هي موجهة؟" "وما أهدافها ونشاطاتها؟" "وهل يعقل أن يجري كل ذلك دون تنسيق روسي أمريكي؟" دون شك، محافظة الحسكة منطقة استراتيجية لاحتوائها على كميات هائلة من النفط والغاز ولغناها بالمياه والزراعة ووجود العديد من القوميات لا سيما الكرد، ولكن كل ما سبق لا يعطي تفسيراً كاملاً للتزاحم على إقامة قواعد عسكرية هناك، وهنا ينبغي الإشارة إلى أن الأولويات مختلفة، فتركيا أولويتها القصوى محاربة الإدارة الذاتية الكردية وصولاً إلى القضاء عليها، وأمريكا التي باتت مناطق انتشارها محصورة بالمنطقة الحدودية المجاورة للعراق تهمها وضع حد للمشروع الإيراني هناك، وهو ما تريده إسرائيل أيضاً، وحدها روسيا تتحرك باستراتيحية مختلفة، إذ إن إقامة قاعدة عسكرية في القامشلي محمية بنظام دفاع صاروخي تشير إلى أنها تفكر بإقامة طويلة إن لم تكن دائمة هناك، وهي في استراتيجيتها هذه تطالب برحيل القوات الأمريكية من شرقي الفرات بوصفها قوات غير شرعية، كما أنها تنظر إلى الوجود العسكري التركي بوصفه وجوداً مؤقتاً ومرحلياً فرضته المصالح المشتركة في وجه الأمريكي دون أن يعني ذلك السماح لتركيا ببقاء دائم في الأراضي السورية. لكن الثابت أن مثل هذه الاستراتيجية لن تتحقق دون عقبات كثيرة، لا سيما أن تركيا أردوغان تتصرف وكأنها باقية في مناطق شمال سوريا، بحجة الأمن القومي التركي، ولعل توجهها إلى إقامة بنية خدمات على صعيد الجامعات والتعليم والاتصالات والتجارة والطرق والثقافة.. مؤشرات تكشف نيتها بفرض سياسة أمر الواقع كما جرى خلال احتلالها شمال قبرص، حيث ما زال الوجود العسكري التركي قائماً هناك منذ الغزو التركي للجزيرة عام 1974 وإعلان جمهورية هناك لم يعترف بها أحد إلى اليوم إلا تركيا.
لعل أكثر ما يلفت الانتباه في قضية إقامة قاعدة روسية في القامشلي مسألتين. الأولى: في الشكل إن هذه القاعدة موجهة بالدرجة الأولى إلى القوات الأمريكية والتركية. الثانية: وهي الجوهر، وتشير إلى أن إقامة هذه القاعدة تأتي في سياق التفاهمات الأمريكية - الروسية التي جرى الحديث عنها خلال لقاء الرئيسين ترامب وبوتين في فبراير/شباط العام الماضي، وهي خطوة المراد منها قطع الطريق أمام المشروعين الإيراني والتركي معاً، تمهيداً لإخراجهما من سوريا، فالقاعدة الروسية قطعت الطريق أمام خطط أردوغان للوصول إلى الحدود العراقية، كما قطعت الطريق أمام إيران التي حشدت قواتها ومليشياتها على حدود البوكمال مع العراق للزحف إلى شرقي الفرات.
وعليه، هل فعلاً ما يجري هو في إطار حرب قواعد عسكرية؟ في الواقع، يمكن القول إن الصورة المرحلية هكذا تبدو، فيما التصور الاستراتيجي مختلف، إذ مع التأكيد أنه لا مواجهة أمريكية– روسية في سوريا، يبقى الهدف المشترك للطرفين هو نقل الأزمة السورية التي استنزفت الجميع إلى مرحلة جديدة، هي مرحلة كيفية إخراج تركيا وإيران من سوريا.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة