التحركات التي شهدتها وتشهدها أروقة الدبلوماسية العربية والإقليمية والدولية بشأن سوريا نقلت الاهتمام بالملف السوري من دائرة الصراع المباشر ، إلى إطار مواجهة تحديات فك الاشتباك من ناحية، وترتيب الأولويات المتعلقة بمصالح الجميع من ناحية أخرى
تعقيدات الملف السوري لم تعد تشكل تحديا لطرف بعينه، أو ميزة لطرف آخر . تفكيك تشابكات وعُقد خيوط الملف لم تعد حكرا على جهة دون غيرها، لأن أي طرف لا يمتلك مقومات الفعل بمفرده.
تباين المصالح وتناقض الاستراتيجيات والأهداف قد يكون العنوان الأكثر تعبيرا عن صراع الأولويات بين اللاعبين جميعهم بمن فيهم أولئك المتناغمون في أساليب العمل الميداني والسياسي وإدارته. أولوية وحدة سوريا وسيادتها على كامل ترابها واستقلالها تتقدم عند الدول العربية على سواها بالتوازي مع العمل من أجل تعافيها الاقتصادي والمجتمعي، وهذه الأولوية تلتقي عندها الأطراف الإقليمية والدولية في مواقفها المعلنة.
شَرَعَ العرب في خطواتهم العملية وهدموا الأسوار النفسية والدبلوماسية والسياسية أمام عودة سوريا إلى الحاضنة العربية تمهيدا لتفعيل حضورها ودورها مجددا في المجتمع الدولي ومؤسساته. انقسمت مواقف بعض الدول الأخرى بين مشكك بجدوى الانفتاح على سوريا، وموارب في مقارباته للنتائج التي يمكن أن تثمر جراء النهج العربي الجديد.. وهي تخوض معركة العبور إلى السلام؛ تجد سوريا نفسها في مواجهة مباشرة مع تحديات متشعبة خلفتها سنوات الصراع فيها وعليها، بعضها مرتبط بحاضرها ومستقبلها، وبعضها الآخر متعلق بأولوياتها في تحديد خياراتها التي من شأنها الإسهام في تعبيد طريق خروجها من هذا النفق.
الجانب التركي يضع "مكافحة الإرهاب" على رأس أولوياته مدفوعا بهواجسه لحماية أمنه القومي الذي يراه مهددا من قبل بعض التنظيمات الموجودة على الأرض السورية قرب حدوده الجنوبية. دمشق تتمسك بمطلبها "مكافحة الإرهاب" أيضا، وتخشى خطره القادم من بعض مناطق الشمال السوري الذي تسيطر عليه تركيا. الجانبان يتقاطعان في الاتفاق على هذا المفهوم، إلا أنهما يفترقان، بل يتصادمان في ترتيب أولويات الاحتياجات الأمنية وتقديرها وأسبقيتها لكل منهما. يختلفان في الاتفاق على تشخيص الجهة الإرهابية التي تهدد طرفا دون آخر. ما تراه دمشق مصدر تهديد لأمنها، ترى فيه أنقرة ورقة ضغط ومساومة، والعكس صحيح تماما.
أولى أولويات سوريا تتركز على استعادة سيادتها على كامل أراضيها بدءًا من مناطق الشمال كأرضية صالحة لبناء خطوات الثقة مع أنقرة، والتمهيد لتأسيس اتفاقات وتفاهمات ينطلق من مطالبها الوطنية واستعادة السيطرة على كامل ترابها. قتامة المشهد الذي يلف الجهود الدبلوماسية المبذولة لنقل سوريا إلى مرافئ الاستقرار نابعةٌ مما راكمته سنوات الحرب وشظاياها التي تناثرت وطالت دول الجوار وغيرها، أمنيا واقتصاديا واجتماعيا وسياسيا. الحراك المتواتر ، وخاصة من الجانب العربي، شكّل رافعة إضافية لمواقف الدول المعنية بالملف السوري كونه ينطوي على محرّضَيْن اثنين، الأول يتمثل بقدرة الدور العربي على إحداث توازن للمصالح بين سوريا وبين الدول الأخرى من خلال بلورة قواسم مشتركة تجعل إمكانية اللقاء والتفاهم أكثر يسراً وسهولة، والمحرض الثاني يتمحور حول وجود ضامن مشترك يطمْئن المتحاورين، بحيث تُحفَظ لسوريا حقوقُها من طرف ، وتلبي مصالح وحقوق الآخرين من طرف آخر .وضعَ العربُ الملف السوري على أجندة الاهتمام الدولي بعد أن كاد يوضع على رفوف النسيان.
التسخين الذي تشهده المواقف وبعض الساحات يعكس في جانب منه حقيقة التقدم التدريجي الذي يحدث في مسارات السياسة، وكذلك التفاهمات المتنامية بين مختلف الأطراف وإن كان كل بحسب مصالحه. أنقرة تعلم أهمية ملاقاة دمشق في منتصف الطريق ، وهي تدرك أن اتفاقها مع سوريا هو الضامن الأهم لطمأنتها ونزع هواجسها وقلقها الأمني، وبالتالي لا بد من ترتيب الأولويات ووضع محددات لها تتلاقى مع أولويات دمشق، ودمشق تعلم أن التفاهم، ومن ثم الاتفاق مع تركيا سيمثل بوابة أساسية من بوابات عبورها إلى الغد المأمول بعد أن لمست وعايشت واختبرت أهمية الإسناد العربي لها في مختلف الساحات، واتفقت معهم على ترتيب أولويات التحرك في الاتجاهات كافة، الداخلية والخارجية.
غالبية مصالح اللاعبين التقت حول حتمية طي صفحة الصراع في سوريا، وعلى سوريا.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة