التهديد بالحرب أكثر فاعلية من الحرب نفسها. هذه حقيقة تعلمتها البشرية من كل النزاعات التي أعقبت الحرب العالمية الثانية على الأقل.
وحيث أنها لم تمنع من نشوب الحروب، في دلالة على أن الشعوب لا تتعلم الدروس، أو لا تتقن الاستفادة منها، فقد ظل يحدث أن تلك الحروب مُكلفة بشدة للذين لم يأخذوا بها.
من حرب فيتنام الى حرب أوكرانيا، مرورا بالعديد من الحروب الأخرى، ومنها ما شهدته هذه المنطقة، فقد ثبت أن الذين يبدؤون الحرب يدفعون الثمن باهظا. ولو أن الزمن عاد بهم الى الوراء قليلا، فإنهم ما كانوا ليتخذوا القرار نفسه.
إسرائيل وحدها قد تستطيع الزعم أنها "انتصرت في كل الحرب" التي خاضتها. ولكن هذا غير صحيح تماما. إسرائيل لم تكسب أي حرب حقا، حتى الآن. النزاع المفتوح على مصاريعه كلها، يؤكد أن بلدا ما يزال لا يعرف أين تقع حدوده، لا يستطيع الزعم أنه حقق شيئا لا يقع خارج دائرة الشكوك والتحديات والأسئلة. أو بعبارة أخرى: لا يقع خارج دائرة الصراع. ومحاولات السلام إنما تُبذل من أجل أن يعرف الإسرائيليون بأنفسهم ما هي الحدود التي يتعين العيش في داخلها باستقرارٍ غير قائم على الإكراه والعنف.
إذن حتى هذا الاستثناء نفسه، يعود ليؤكد القاعدة. وهي أن الحروب مُكلفة لمن يبدأ بها. وحيث أن النهايات ليست مضمونة على الإطلاق، فإن البدايات التي قد تبدو سهلة، سرعان ما قد تنقلب إلى نتائج معاكسة.
تقول ذلك، حتى لتسأل: إذا كان هذا هو الصواب بعينه، فماذا عن خوض الحرب بأسلحة نووية؟
الحقيقة التي لا تغرب عن بال أحد، هي أن هذا النوع من الأسلحة لا يصلح حتى للتهديد به. ولكن ليس لأنه يقصد إنهاء حرب لا يمكن كسبها بالوسائل التقليدية، بل لأنه "يُزيد الطين بِلة".
لقد عرفت البشرية ماذا تعني القنبلة الذرية عندما شاهدت ما حدث في هيروشيما وناكازاكي. وعلى الرغم من أن الصراعات الاستراتيجية بين المتنافسين الكبار ظلت تحضهم على تطوير أسلحة نووية أكثر فتكا لتحقيق غاية تدعى "الردع" حتى بلغوا بها مستوى الجنون، وأدركوا الحاجة إلى ردع ذلك الردع نفسه، فالحقيقة هي أنهم وضعوا قيودا على أنفسهم لمنع استخدامها، ثم أخذوا بالاعتبار جملة العواقب الأخرى، لتكون هي الرادع الأهم. قبل أن ينتهوا إلى أن الهزيمة نفسها أفضل من أي "انتصار" يحمل معه تلك العواقب.
الاقتصاد العالمي سوف يصاب باهتزاز لا مثيل له. ونظام العلاقات الدولية كله سوف يتطلب إعادة بناء عندما يتم عزل القوة التي تستخدم سلاحا من هذا النوع. والعوامل الأخلاقية والإنسانية والبيئية، سوف تنهض كلها دفعة واحدة لتتحول إلى قوة نبذ وإدانة حيال خيار جسيم من هذا النوع. وحتى لو لم يكن بوسع الطرف الآخر أن يرد بالمثل، فإن استخدام هذا السلاح، سوف يمثل نوعا من ترخيص ضمني يجيز الرد بالمثل، كما يُجيز كل ما يقع دونه من ردود أخرى.
ولا شك أن الهزيمة أفضل، وأعقل.
لقد كان بوسع الولايات المتحدة أن تستخدم أسلحتها الذرية لكي تتحاشى الهزيمة في فيتنام. ولكنها تجرعت مُرّها لتحاشي ما هو أمرّ لو أنها اتخذت ذلك الطريق الوعر. أتاحت لها تلك الهزيمة أن تعيد تنظيم قوتها وعلاقاتها واقتصادها ومعاييرها حتى تحولت إلى قوة دولية عظمى مهيمنة، بينما طريق السلاح النووي كان سيقودها هي إلى الهاوية.
هُزمت الولايات المتحدة في العراق أيضا. كما هزمت في أفغانستان أيضا وأيضا. وقد يظل بوسعها أن تُهزم في كل مكان تذهب إليه بأسلحتها وجيوشها. إلا أنها لن تستطيع أن تتحمل عبء انتصار واحد قائم على استخدام أسلحة نووية، حتى ولو كانت "تكتيكية" أو محدودة التأثير.
الولايات المتحدة أعقل بكثير من أن توقع نفسها بكارثة "انتصار" من هذا النوع. رغم أن جنودها لم يكونوا قليلي الوحشية في ساحات القتال.
روسيا نفسها، حتى، وإن كانت تواجه ضغوطا جمة في أوكرانيا، فقد قدمت إشارة واحدة على الأقل تقول إنها لن تأخذ بهذا السبيل. ليس لأنه عمل انتحاري، بل لأنه عمل مجنون.
في ديسمبر الماضي قال الرئيس بوتين إن بلاده تدرك ما هي الأسلحة النووية، قبل أن يضيف "نحن لسنا على وشك الركض حول العالم ملوحين بهذا السلاح وكأنه شفرة حلاقة".
لا يهم من يكسب أو يخسر في الحرب الدائرة في أوكرانيا. الكل يخسر. وقد لا يعثر الطرفان على سبيل لكسب مشترك. إلا أن العاقل يعرف أنها ليست "شفرة حلاقة".
ؤ.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة