بداية لا بد من التفرقة بين الدين والتدين، فالدين لله، وهو يشمل كل الكتب السماوية، وأتباع الأنبياء والرسل.
والتدين هو قناعة الإنسان بالدين عقلاً، وتصديقه وإيمانه به قلباً، وتطبيقه سلوكاً، وقديماً قال عبد القاهر الجرجاني المتوفى 1078 في كتابه "التعريفات": "إن الدين منسوب إلى الله تعالى، والملة منسوبة إلى الرسول، والمذهب منسوب إلى المجتهد"، وهنا يكون التدين هو ما تلقاه الإنسان الفرد من المجتهد، ولذلك كانت هناك مساحة واسعة بين الدين والتدين في جميع الملل.
وعند تقديم الدين للإنسان، أو تحويل الدين إلى تدين، لا بد أن يكون البناء المعماري للدين واضحاً؛ حتى يكون التدين سليماً، لذلك لا بد أن يكون لدى عالم الدين أو الداعية أو الواعظ عقل متميز، يفهم مكونات الدين، وهيكله وأولوياته، وأي هذه المكونات والأبعاد يكون أولاً، وأيها يأتي ثانياً… وهكذا؟، ولا بد أن يلتزم بنفس البناء المعماري للدين، ولا يضع السقف مكان الجدار، ولا الأرضية مكان السقف، وإلا اختل الوضع، ومشى الناس على رؤوسهم، وفكروا بغيرها، وهنا تكمن المشكلة.
أزمة المسلم في هذا الزمان؛ التي تجعله تائهاً حيراناً، أنه يعيش منذ عقود طويلة مع العديد من علماء دين ووعاظ ودعاة غير مؤهلين التأهيل الكافي، لأن نظم التعليم في عالمنا العربي آثرت أن ترسل أوائل الطلاب إلى الطب والهندسة، ومن هم دونهم بكثير إلى التعليم الديني، أو التعليم الشرعي والقانوني، والأدبي واللغوي بالجملة، لذلك قلّ المتميزون في فئة المشتغلين بتعليم وتنظيم تدين المسلمين، إلا من رحم ربي، وهم أقلية ضئيلة نادرة لا تستطيع التأثير فيصبح وجودها والعدم سواء.
الإسلام عقيدة وشريعة وأخلاق، هذا هو البناء المعماري لهذا الدين الحنيف، العقيدة هي الإيمان بأركانه: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والقدر، ومن خصائصها أنها واضحة وبسيطة، وغير معقدة وليس فيها فلسفة ولا كثير كلام، راسخة في قلوب العوام والبسطاء أكثر من العلماء، هكذا كانت منذ نزول الإسلام، ومع تطور الزمن وترجمة الفلسفة اليونانية، والاحتكاك بالحضارات والعقائد الأخرى؛ وجد المسلمون أنفسهم في حاجة إلى إثبات قضايا الإيمان هذه بالعقل، وليس من خلال نصوص القرآن والسنة، لأنهم يخاطبون بشراً لا يؤمنون بالقرآن والسنة، فكان من شدة تسامحهم، ورقيهم أنهم أرادوا الدفاع عن دينهم بمنهج من يتحاورون معهم، وهو الإثبات العقلي بالحجة والبرهان، فنشأ ما سمي علم العقيدة، أو علم الكلام، أو علم التوحيد للدفاع عن الإيمان الإسلامي بالحجة العقلية والبرهان المنطقي من الكون والتاريخ.
ولكن مع الانحدار الحضاري الذي مرت به الأمة الإسلامية، وبتأثير عصور التخلف تحول هذا العلم إلى وسيلة لتعميق الخلافات بين المسلمين، وتكفير بعضهم، وتفريق المسلمين وتمزيقهم، لأنه دخل في الخلافات بين المسلمين واقتصر عليها، وهو هكذا إلى يومنا هذا.
أما الشريعة أو الفقه فكان لتنظيم السلوك الظاهر من الإنسان في علاقاته مع نفسه، ومع الآخرين، وهو يتعلق بالسلوكيات، ولكنه ليس مهيمناً على كل السلوكيات، بل هو قاصر على عدد منها، إما بالنص عليها في القرآن والسنة، وإما بالقياس على ما جاء في القرآن والسنة، وترك الإسلام جميع حياة الإنسان بعد ذلك للأخلاق، فهي الأساس في كل شيء، وهي العلة من وجود كل شيء، وهي نتيجة كل شيء، ولا قيمة للإيمان أو للشريعة والفقه إن لم تتحول إلى أخلاق يعيش بها الإنسان في الحياة، تضبط سائر سلوكه مع ربه ونفسه ومع الناس، فالأخلاق هي هدف وغاية كل العقيدة، وكل الشريعة، وكل الفقه، فقد جاء في الحديث القدسي: "ليس كل مصلٍّ يصلي، إنما أتقبل الصلاة ممن تواضع بها لعظمتي، ولم يستطل على خلقي، ولم يبت مصراً على معصيتي.. (إلى آخر الحديث)".
فالإسلام دين القيم، والدين المعاملة، هذه قواعد ثابتة لا تحتاج إلى دليل، فماذا حدث للمسلم المعاصر؟ لماذا اختلت الموازين؟ ولماذا انقلب البناء رأساً على عقب؟ ولماذا صار المسلم يمشي على رأسه، ويفكر برجليه أو ما دونهما؟ لماذا أصبح مشغولاً ليل نهار بما لا ينبغي أن ينشغل به من المسلمات؛ تاركاً ما ينبغي أن يبذل قصارى جهده فيه من الأخلاقيات والسلوكيات؟
الإشكالية الكبرى جاءت مع ظهور الجماعات التي نصبت من نفسها متحدثة باسم الدين، تراقب الناس باسم رب العالمين، تعيد تفسير كل شيء في الدين طبقاً لما تراه، وكل ما عداها خطأ وضلال مبين، ظهرت هذه الجماعات في ظل غياب الدولة، وانكماش مؤسساتها الدينية، ودخولها في حالة بيات شتوي امتدت لأكثر من نصف قرن، استطاعت هذه الجماعات إعادة صياغة التدين بعقلية السباك والنجار والحداد، ولم يكن من بينها مهندس معماري واحد؛ لأنه للحقيقة والتاريخ كان معظم دعاتها من فئة المهنيين الذين يستطيعون القراءة، أطالوا لحاهم، وقصروا ثيابهم، وعددوا زوجاتهم، وامتدت كروشهم، فصار لهم سمت كهنة الدين في عقل الإنسان البسيط، هذه الجماعات خرَّبت العمران الديني جملةً وتفصيلاً، وأربكت المسلمين، وأدخلتهم في متاهات لن يخرجوا منها قبل جيل من الآن.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة