منذ أن دخلت القواعد الأمريكية في سوريا مجال الاستثمار السياسي بالتزامن مع حرب غزة، قفز إلى حيز الوجود، سؤال حول احتمال تحويل سوريا إلى ساحة حروب بالوكالة وتصفية للحسابات.
الجهة المنفذة متخفية تحت اسم «المقاومة الإسلامية العراقية» وهي حديثة النسب. المفارقة أن المنفذين يؤكدون انتماءهم إلى جهة عراقية بينما يستهدفون بعض القواعد الأمريكية على الأرض السورية في ظل صمت رسمي سوري تام، باستثناء بعض وسائل الإعلام السورية التي أسقطت صفة «الإسلامية» عن الجهة المنفذة، واكتفت بوصفها «المقاومة العراقية».
ظاهرة مثيرة؛ ليس لما تنطوي عليه من مفارقات وحسب، بل لما تتضمنه من إرهاصات بأبعاد استراتيجية متعلقة بسوريا تحديدا، وهي التي تعيش واقعا معقدا على الصعيدين السيادي والميداني، لا يقل خطورة على غدها ومستقبلها من واقعها السياسي والاقتصادي الصعب.
هل المناوشات بين ما تسمى «المقاومة الإسلامية العراقية» والقوات الأمريكية في سوريا وليس في العراق، مقدمة لتحويلها إلى ساحة ابتزاز وضغط متبادل بين القوى المتصارعة في المنطقة كإيران وواشنطن كما حدث ويحدث في العراق منذ أكثر من عقدين من الزمن؟ أم إن الأمر لا يعدو عن كونه هبّة إيرانية عابرة لتحقيق غرضين؟: أولهما التماهي الشكلي مع مجريات حرب غزة، والثاني إشارة إيرانية إلى توظيف الأرض السورية لمصالحها؟
سؤال المستقبل هنا أكثر حضوراً وإلحاحا: هل سوريا قابلة للتطويع كما كان الأمر في العراق؟ وإلى أي مدى سيعود هذا المسلك الميليشياوي، بالضرر أو بالفائدة، على مستقبل سوريا دولةً وشعبا؟
تبدو الإجابة الحاسمة معلقة حتى تستبين أمام العالم آفاق الصراع ومساراته بعد حدث غزة، فهل تستمر استهدافات ما يسمى «المقاومة الإسلامية العراقية» للقواعد الأمريكية في سوريا بعد انتهاء الحرب، أم تتوقف كما حدث خلال الهُدَن المؤقتة؟
ليس هناك شك في أن الأحداث الداخلية السورية شكلت فرصة استراتيجية لإيران فوسعت حضورها سياسيا وأمنيا وجغرافيا، وأرفقته بمظلة اقتصادية على طيف واسع من القطاعات السورية، بالتزامن مع تراجع الإمكانيات الذاتية السورية، وتراجع سيطرتها عن مساحات واسعة من البلاد، فكانت طهران تملأ الفراغ.
واعتمد الإيرانيون في سوريا تكتيكاً خاصا في تحويل الحرب السورية إلى حلبة صراع مع قوى محلية وخارجية، وانخرطوا في مجريات الصراع بشقيه السياسي والعسكري، فكانوا في مسار أستانا كدولة ضامنة إلى جانب تركيا وروسيا، مستفيدين من رغبة موسكو في استقطاب لاعب إقليمي إلى جانبها في ترجيح كفة التوازن مع تركيا أو على الأقل تعديلها، ورفدت قوتَها المتنامية داخل سوريا بعوامل إضافية استثمرتها في تحقيق كثير من أهدافها.
ومع تطور الصراع في سوريا وعلى سوريا، أفردت طهران أجنحتها العسكرية، وأوكلت قيادتها لنخبة من عسكرييها وأمنييها، فوسعت دائرة انتشارها حتى وصلت إلى تخوم جبهة المواجهة مع إسرائيل جنوب سوريا، لتكمل حلقات شعاراتها بتدمير إسرائيل، دون أن تتراجع عن نهجها القائم على السعي لفرض حضورها وتأمين مساحة لدورها السياسي الذي ترنو إليه.
الوقائع السياسية والميدانية على الأرض السورية تشي بأن سيناريوهات المستقبل غير محدودة، وأي واحد منها قابل لأن يكون هو المرجح بسبب تعقيدات الملف السوري وتشابكاته، ومن الطبيعي أن تكون الولايات المتحدة الأمريكية قد أخذت في الحسبان سيناريو المناكفة والمشاغلة لها في سوريا، وعدم ركون خصومها إلى واقع وجودها العسكري والتسليم به، أو الاستسلام له من جانب سوريا وحلفائها الإيرانيين والروس، الذين يجمعهم قاسم مشترك هو رفض هذا الوجود بكل صيغه العسكرية والأمنية وحتى السياسية، مما يجعل السؤال حول مصلحة واشنطن في التغاضي عن التمدد الإيراني في الإقليم عموما، وفي سوريا بشكل خاص، سؤالاً مشروعا، إضافة إلى حساسية المصالح المتنازع عليها في سوريا بين تركيا من طرف وبين روسيا وإيران من طرف آخر .
تدرك واشنطن أن سياستها هي التي تقرّب بين طهران وموسكو أكثر، سواء في الحرب الروسية الأوكرانية، أو في سوريا، وربما في قضايا دولية أخرى، لكن وحدة النهج الروسي الإيراني في مواجهة الولايات المتحدة في ساحات متعددة لا تنسحب على الشأن السوري على المستوى الاستراتيجي، حيث الخلافات في الأهداف جلية بين الجانبين، والتناقضات في إدارة الصراع ملموسة بينهما، وصولا إلى خشية متبادلة لديهما من محاولات الاستحواذ على الكعكة السورية من قبل أحدهما على حساب الآخر، ويبدو أن ملامح الغد السوري باتت مرتبطة، في عدد من جوانبها، بما ستؤول إليه أوضاع المنطقة بعد أن تحط حرب غزة أوزارها .
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة