بات توازن المصالح ورعايتها سيد الموقف على الساحة السورية، فيما أصبحت الأطراف الفاعلة على الأرض تتجنّبُ الخوض في أي حوارٍ أو تفاوضٍ جادٍّ من شأنه تغيير خارطة النفوذ والمكتسبات التي حققها كل منها.
كما تتجنّب هذه الأطراف المواجهة المباشرة فيما بينها، والحديث هنا عن الأطراف الدوليّة الفاعلة؛ صاحبة اليد الطولى في هذا الصراع، حتى أصبح السوريون مجرّد ضحية وضريبةٍ ثانويّةٍ لهذا الصراع المتناوب بين الهدوء أحياناً والتصعيد أحايين أُخرى، ولعلّ أبرز ما يدلّ على هذا الصراع يكمن في المواجهات المتكررة من قصفٍ وتنفيذ ضرباتٍ واغتيالاتٍ من حينٍ إلى آخر على يدِ الأطراف الفاعلة على الأرض.
فنجدُ أنّ (روسيا) التي يُفترَضُ أنها على رأسِ مشروعٍ يناهضُ المشروع الأمريكيّ دولياً بعامةٍ وسوريّاً بخاصة، لا تدخلُ في أيّ مواجهةٍ مباشرةٍ مع الولايات المتحدة، وإنما تمرّرُ أوراقها السياسية والعسكريّة على شكلِ ضرباتٍ عسكريّةٍ قاسية على مناطق الشمال السوريّ، على الرغم من أنّ هذه الأخيرة لا تدعم من الولايات المتحدة، لكنّ هذه الضربات تأتي في سياق الرسائل الحقيقية لتأكيد الجدية الروسية في الحفاظ على مكتسباتها ومكتسبات حلفائها من الحكومة السورية في وجه أي محاولاتٍ أمريكيّةٍ أو تركيّةٍ لخلط الأوراق، والمساس بحدود المصالح والسياسة الروسية.
أما (تركيا) فهي لا تتوانى في تنفيذ ضرباتٍ وهجماتٍ متواترة على مناطق نفوذ (قسد) المدعومةِ أمريكياً، في مشهدٍ دراماتيكيٍّ يشدّدُ على أنْ يكونَ أي مشروعٍ مجاورٍ لتركيا لا وجود ولا استقرار له بمعزلٍ عن حساباتها السياسية والأمنية والعسكرية، فنجدُ القصف التركيّ لمناطق قسد يأتي بهجمات متفرّقة وبأساليب محدّدة، وكأنّ الغاية منه توجيه الرسائل المباشرة لا الحرب المباشرة، ومن دون أي تحرّكٍ أمريكيٍّ جادٍّ، بما يوحي بالتطامن التركي الأمريكي ضمنياً حول طبيعة هذه المواجهات ومحدوديتها، والتطامن ذاته نجده على الجبهة الشمالية الأخرى بين الفصائل المدعومة تركيّاً من جهة، والطيران الروسي ومدفعيته من جهةٍ ثانية، فلا روسيا تواجه تركيا على الرغم من أنها الداعم الحقيقي لهذه الفصائل، ولا تركيا تواجه روسيا على الرغم من أنّ الضربات تتركز على حلفائها.
كما نجدُ أنّ (إيران) لا تتحرك بشكلٍ مباشرٍ على الساحة السوريّة، وإنما تعملُ على زيادة نفوذها، رغم محاربته بشكلٍ مباشرٍ وجديٍّ من قبل الضربات الإسرائيلية المتوالية لأي هدفٍ أو تحرّكٍ من شأنه زيادة نفوذ إيران في سوريا، وهذه الضربات تتمُّ بتنسيقٍ علنيٍّ أو غير علنيٍّ بين إسرائيل وروسيا، على الرغم من أنّ روسيا وإيران حليفان على الأرض السورية، وإنْ لم يكونا حليفين استراتيجيين، فإنهما الأقرب - من حيث الأهداف المعلنة – من أي طرفين آخرَين لأنْ يكونا شريكين في النفوذِ والمصالح على الأرض، إلا أنّ الأهداف المعلنة ليست هي الأهداف الوحيدة أو الأهم، وهو ما يفسّر هذا الحذر.
أما الولايات المتحدة فهي تعمل على الأرض السورية وفق قاعدةِ تمرير الأهداف والمشاريع بخطٍ متوازٍ مع الحفاظ على التوازن الاستراتيجي، فلا هي تمنع تركيا من تمرير رسائلها وتنفيذ ضرباتها المحدودة على حلفاء الولايات المتحدة، ولا هي تطلق لها العنان لتحقيق طموحها وأهدافها، وكذلك الأمر مع روسيا.
فالولايات المتحدة تحافظ على وجود روسيا المحدود في مناطق حلفائها من (قسد) وفي الوقت ذاته تمنعه من أي تمدُّدٍ جديدٍ، وبذات الطريقة وذات السياسة تتعامل الولايات المتحدة مع الملفات الأُخرى المتعلقة بإيران وفصائل المعارضة والقوات الحكومية؛ إذ لا تدعم طرفاً بقوة، كما لا تخاصم طرفاً بقوة، فلعبة التوازنات هي سيدة الموقف في التعامل مع كل الملفات النشطة منها والعالقة.
وهذا كله إنما يشير ويؤكّدُ على أنّ المعركة والصراع على الأرض السورية ليس صراع كسر عظمٍ، وإنما هو صراع توازناتٍ ونفوذٍ، ومحافظةٍ على المكتسباتِ لكلِّ طرفٍ من الأطراف الدوليّة الفاعلة؛ لأنّ أي إخلالٍ بهذا التوازن قد يُشعل المنطقة وليس سورية وحدها، وقد يجعل من الصراع صراعاً مباشراً بين هذه القوى المختلفة في مشاريعها وأجنداتها وسياساتها، وهو ما لا يتمنى أي طرفٍ من الأطراف وقوعه، لتغدو المكتسبات الدولية من النفوذ والأوراق السياسية والعسكرية للأطراف الدوليّة هي سيدة الموقف والحضور على الميدان السوريِّ، وسورية تزداد ضعفاً ووهناً تحت وطأة هذا الصراع.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة