يمكن تلمّس مفرزات الصراع على "سوريا المستقبل" من خلال قراءة واقعية وموضوعية لطبيعة ودوافع القوى الدولية والإقليمية الفاعلة على الساحة
من الملامح التي رسمتها المواجهة المباشرة وغير المباشرة في إدلب بين روسيا وتركيا احتمال أن تتحول القضية السورية في مرحلة ليست بعيدة إلى قضية دولية أو قضية تنازع دولي على النفوذ وتقاسم المصالح، خاصة أن اللاعبين المحليين المتصارعين، على تنوع صفاتهم وأوصافهم، تحولوا بحكم علاقة كل منهم بجهة دولية معينة، إلى منابر وأدوات وصدى لمصالح وخيارات الدول المنخرطة في الأزمة السورية بشكل مباشر وعلني كروسيا وإيران وتركيا، أو بطريقة غير مباشرة مثل الولايات المتحدة الأمريكية وعدد من دول الاتحاد الأوروبي، مع تعدد اللاعبين من الطبيعي أن تبرز تناقضاتهم وتعارض مصالحهم، يكمنون وراءها إلى حين أن تتضح اتجاهات الصراع ومآلاته، وتنتقل -كلما تضاءلت مساحات القتال وتقلصت- إلى ما يشبه كرة الثلج المتدحرجة فتكبر، وتتشكل بفعل ووحي تلك المصالح ما يشبه القناعة بأحقية كل طرف في السيطرة وحيازة ما يعتبره ضمانا لمصالحه وتعويضا لما بذله وقدمه خلال فترة الصراع سياسياً واقتصادياً وعسكرياً. أنْ يبدو المشهد في سوريا وحولها بهذا الوضوح فذلك ليس غريبا بعد مرور أكثر من تسع سنوات على الأزمة، ورسْم كل طرف خارجي خرائط مصالحه على الأرض السورية دون اكتراث بالشعب السوري ووطنه، التساؤلات المتعلقة بمصير وشكل مخارج الأزمة لم تعد تتوقف عند حدود قطاعات الشعب السوري، لا من بقي في الداخل ولا ذاك الذي توزع على بلاد المنافي، ولا حول إمكانية اجتراح حلول وصيغ سياسية اجتماعية تكون بمثابة بنى وركائز وطنية جديدة تأخذ بعين الاعتبار مجمل التحولات التي عصفت بمجتمع سوريا ما بعد 2011، بل بماهية الدولة السورية المنشودة في ظل تراجع الدور والتأثير للقوى المحلية في السلطة الرسمية والمعارضة على حد سواء، لسبب واحد يشكل قاسما مشتركا لكليهما، وهو في شطره الأول نابع من الضعف، وفي شطره الثاني ناجم عن تسليمها القوى الخارجية إدارة ملفاتها وتوجيه أفعالها وتحديد خياراتها.
قد تغض موسكو الطرف عن بعض الجوائز ذات الطابع الاقتصادي لكل من تركيا وإيران في سوريا مستقبلا، لكنها لن تتحمل وزر تأثيرهما أو تأثير أحدهما على مشروعها السياسي الاستراتيجي عبر البوابة السورية، وتحديدا التفاوض مع واشنطن ومع بعض الأوروبيين الحاضرين في بعض مناطق سوريا
يمكن تلمّس مفرزات الصراع على "سوريا المستقبل" من خلال قراءة واقعية وموضوعية لطبيعة ودوافع القوى الدولية والإقليمية الفاعلة على الساحة السورية وعلى الساحة والقرار الدولي المتعلق بسوريا، معادلة الشريك-الخصم بين روسيا وتركيا التي أوحت إلى فترة قريبة بأنها الأكثر رسوخا تصدعت مع أول رصاصات المواجهة والصراع بينهما، وتقدم المصالح والمكانة والاستحواذ في إدلب على ما عداها، فلا مسارات أستانة تمكنت من تثبيت وتوزيع الحصص على مثلثها إيران وتركيا وروسيا بشكل نهائي، ولا اتفاقية سوتشي ضمنت حصص حلفاء الأمس بالشراكة؛ حيث تم استبعاد إيران منها واقتصرت على الروس والأتراك، وباتت أقرب إلى التاريخ منها إلى الفاعلية والجدوى بعد قمة موسكو مؤخرا بين بوتين وأردوغان، وأثبتت اتفاقية سوتشي أنها محطة مرحلية فرضتها وقائع السياسة والميدان، ولا تحمل في طياتها أي بذور للديمومة والاستمرار، "توافقات الضرورة" هي الوصف الأكثر تعبيراً عما يمكن اعتباره مجازا تفاهمات روسيا وإيران وتركيا في سوريا وحولها، كل طرف لديه أجندته ومشروعه المتناقض تماما مع شريك الضرورة، الأتراك يبسطون سيطرتهم ويحتلون مئات الكيلومترات المربعة من الشمال السوري ولديهم مشروعهم، الإيرانيون يتوسعون بشكل كبير في مناطق الشرق السوري وجنوبه ولديهم مشروعهم، الروس يتوزعون على مناطق البلاد في جميع اتجاهاتها باتفاقيات رسمية مع دمشق ومشروعهم مؤطر باتفاقيات رسمية، محورها الأساس استعادة السيطرة على جميع الأراضي السورية التي وقعت بأيدي المسلحين، وكل طرف من الأطراف الثلاثة يعلن ويؤكد وحدة سوريا واستقلالها وسيادتها، وبالتالي فإن أي محاولة للتنبؤ وتقدير ما سيحدث لاحقا على صعيد مثلث توافقات الضرورة تقتضي حتما الأخذ بعين الاعتبار معطيات الواقع الموضوعي الراهن وما سيتم البناء عليه في المستقبل. فموسكو، المطلوب منها إنهاء الوجود المسلح تحقيقا لمصالحها وتعهداتها، مقبلة إما على الاصطدام ثانية وثالثة مع الشريك-الخصم التركي في حال شكل عقبة أمام تحقيقها لأغراضها الاستراتيجية وتعهداتها في سوريا وفي المنطقة، وإما انتزاع تنازلات منها تبعد شبح المواجهة، وكذا الأمر مع الحليف الإيراني بسبب تناقض الوجود الإيراني مع مصالح روسيا الاستراتيجية وعلاقاتها الإقليمية والدولية من جانب، ومع أهدافها المتمثلة بجعل سوريا قاعدة رئيسية لنفوذها وحدها وضمن نطاق مصالحها الحيوية من خلال اتفاقاتها المبرمة مع دمشق من جانب آخر.
قد تغض موسكو الطرف عن بعض الجوائز ذات الطابع الاقتصادي لكل من تركيا وإيران في سوريا مستقبلا، لكنها لن تتحمل وزر تأثيرهما أو تأثير أحدهما على مشروعها السياسي الاستراتيجي عبر البوابة السورية، وتحديدا التفاوض مع واشنطن ومع بعض الأوروبيين الحاضرين في بعض مناطق سوريا بشكل متفاوت الحجم والدور؛ حيث تدرك روسيا أهمية الجلوس، في نهاية المطاف، مع الأمريكيين الموجودين بشكل محدود على الأرض السورية، لكنهم فاعلون على المسرح السياسي بشأن الوضع السوري برمته، وهم من الذين أسهموا في القضاء على داعش في بعض المناطق من خلال قوات التحالف الدولي ودعم القوى الكردية في معاركها ضد التنظيم الإرهابي على الأرض، وتدرك موسكو أيضا أن حليفي الضرورة في سوريا، إيران وتركيا، يقفان على طرفي نقيض، سواء في تعارض أهداف ومشاريع كل منهما سياسيا وعرقيا ومذهبيا، أو في وقوف كل طرف منهما في الخندق المعادي لشريكه المرحلي، أو في حسابات وخيارات واشنطن التكتيكية والاستراتيجية وتحالفاتها، ففي حين تقف الولايات المتحدة الأمريكية إلى جانب تركيا الأطلسية في الكثير من خياراتها في سوريا، حتى تلك التي تتناقض مع مصالح بعض حلفائها كالقوى الكردية، فإنها تعارض الوجود الإيراني في سوريا بكل تفاصيله، وتعلن رفضها لنزعة طهران التوسعية في المنطقة وكذلك لبرنامجها النووي، وفوق كل ذلك من المستبعد أن تترك واشنطن الساحة السورية بشكل كامل للروس، ليعيدوا صياغتها وفقا لأهدافهم ومخططاتهم دون الأخذ بعين الاعتبار مصالح أمريكا ومصالح حلفائها ليس داخل حدود سوريا فقط، بل في مجمل الساحة الإقليمية.
انعكاسا للوحة تموضع القوى الإقليمية والدولية ومصالحها المتضادة على الساحة السورية، يمكن القول إن إعادة ترتيب أوراق الطاولة السورية المبعثرة يتطلب المزيد من الزمن، وينطوي على الكثير من التعقيدات والصعوبات وربما المفاجآت، ومن الصعوبة بمكان التكهن بمآلات الصراع بعد أن تعددت المشاريع الإقليمية والدولية بشأنها وتقاطعت عندها وعلى تخومها.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة