كما جرى الأمر في الانتخابات التشريعية والرئاسية، يسير الاستحقاق البلدي المرتقب بعد تسعة أشهر. اللاجئون السوريون يجسدون العنوان الأبرز في المنافسة بين حزب العدالة والتنمية الحاكم وخصومه في المعارضة التركية.
جميع الأحزاب السياسية في تركيا تريد عودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم، ولكن الفارق بينها يكمن في الآلية والغاية. فبينما تفضل المعارضة ترحيلهم بخطوة سريعة لا تكترث للمنافع الداخلية والخارجية منهم، تفكر الحكومة بمراحل لمغادرتهم تنسجم مع ملفات كثيرة تديرها أنقرة منذ سنوات وازدادت أهميتها مؤخرا.
الحزب الحاكم بزعامة الرئيس رجب طيب أردوغان لا يستعجل الخطوة، ويريد أن يستثمر في ملف اللاجئين وعودتهم حتى اللحظة الأخيرة، ليس في الشأن الداخلي فحسب وإنما في ترتيب العلاقات مع الجوار ودول العالم التي لا تزال مهتمة بالأزمة السورية، أو معنية بها لأسباب اقتصادية ومصالح جيوسياسية، بتعبير أدق.
"العدالة والتنمية" يرفض "العودة القسرية الفجة" للسوريين، بتعبير آخر يرفض إعادة كل اللاجئين دون تسوية الأزمة السياسية في بلادهم، وتلك التسوية -مجهولة الملامح حتى الآن- باتت مطلب دول المنطقة بسبب متغيرات دولية وإقليمية عدة وقعت في العامين الماضيين، وخلقت دوافع مختلفة لإنهاء أزمة ممتدة منذ 2011.
تبدو تركيا اليوم مهتمة بحل الأزمة السورية على أساس القرار الأممي 2254 الذي ينادي بالتسوية بين الرئيس بشار الأسد وما تبقى من معارضيه، لن تمانع أنقرة إن كانت الطريق إلى هذا الحل تمر عبر دمشق، أو واشنطن أو موسكو أو أي عاصمة أخرى، طالما توافرت الضمانات لمصالحها في الأمن والسياسة والاقتصاد.
تعيد حكومة الرئيس أردوغان بين الوقت والآخر عددا من اللاجئين إلى الشمال السوري. وتحديدا إلى مناطق نفوذها شرق نهر الفرات أو غربه، توفر لهم سكنا متواضعا ومتطلبات العيش في حدودها الدنيا، وتظهر بهم للرأي العام التركي حرصها على معالجة الأزمة وفق ما تتيحه الظروف المحلية والإقليمية والدولية المحيطة.
غالبية اللاجئين السوريين في تركيا لا يرغبون في العودة لأن واقع بلادهم سيئ إلى حدود تجعلهم يفضلون عليها أي مكان آخر، كما أن العودة دون ضمانات من الحكومة السورية بعدم الاعتقال وتقييد الحركة أمنيا تبدو مخاطرة غير مضمونة العواقب، ناهيك بعجزهم عن إعادة إعمار بيوتهم التي هجروها بسبب الحرب.
لكل ما سبق، ولأنها "بوابتهم المواربة" إلى "جنات" القارة الأوروبية، يفضل اللاجئون السوريون البقاء في تركيا على العودة إلى وطنهم، ولأجل ذلك يبذلون كل نفيس، ويفعلون كل ما في وسعهم لدعم الحزب الحاكم في أي استحقاق انتخابي يعزز من سلطته، وبالتالي يؤجل "ترحيلهم القسري" إلى أطول فترة ممكنة.
لا يملك اللاجئون أصواتا يمنحونها للحزب الحاكم في صناديق الاقتراع، جل ما يمكنهم فعله هو شحذ همم أنصار وأعضاء "العدالة والتنمية"، ودعم برامجهم في كل مجال، كما يستطيعون تخفيف "احتكاكهم" مع الأتراك، وتجنب مواجهتهم في سوق العمل، ومفاصل الحياة اليومية لعل حدة المطالب بترحيلهم تهدأ قليلا.
قد لا يؤثر ذلك فعليا على الأرض. ومن دونه يمكن لحكومة الرئيس رجب طيب أردوغان تدبر الأمر عبر إجراءات وقرارات رسمية تمتص سخط الأتراك من خلال التضييق على اللاجئين، لجعلهم يغادرون مدنا إلى أخرى، ويشغلون أعمالا دون سواها، وقد أثبتت هذه السياسة جدواها في الانتخابات التشريعية الماضية.
ولطالما عبر الرئيس رجب طيب أردوغان بشكل مباشر وغير مباشر عن رغبته في الإبقاء على السوريين الذين يعملون بمهن معينة كالأطباء، وقد حصل نحو ربع مليون لاجئ خلال سنوات الحرب على الجنسية التركية، وتحولوا إلى مواطنين يدينون بالولاء للوطن الجديد بكل ما ينطوي عليه من سياسات واستراتيجيات.
اللاجئون السوريون أيضا يحركون عجلة الاقتصاد التركي أكثر بكثير مما يعطلونها، ولكن الخطاب اليميني لا يكترث لأي أرقام تدلل على هذه الحقيقة، تماما كما لا يهتم لمآلات دوائر الخوف الكثيرة التي عاشها اللاجئون في بلادهم، ويعيشونها اليوم في تغريبتهم تحت تهديد الترحيل وإعادتهم دون أي ضمانات إنسانية.
وبعيدا عن اللاجئين ومعادلات الربح والخسارة جراء بقائهم أو ترحيلهم تعتبر أنقرة عودة السوريين إلى وطنهم جزءا من تسوية شاملة تخوض في تفاصيلها اليوم مع الدولة السورية ودول المنطقة الراغبة بإحلال السلام في الشرق الأوسط، طبعا مع مراعاة الحسابات المعقدة لدول كبرى مثل الولايات المتحدة وروسيا.
تركيا تريد مصالحة حقيقية وتطبيعا كاملا مع دول الخليج والأردن ومصر، ولا تمانع أنقرة أن يشمل التطبيع دمشق إن سارت العودة السورية إلى الجامعة العربية على خير ما يرام، وأبدت حكومة الرئيس بشار الأسد المرونة الكافية لحلحلة القضايا الخلافية مع المعارضة من جهة، ومع دول المنطقة والجوار من جهة أخرى.
الورقة الرابحة بيد تركيا اليوم فيما يتعلق بالسوريين، لاجئين أو جيران، أن أردوغان وحزبه الحاكم لم يعودوا تحت ضغط الوقت والحاجة للإنجاز السريع كما كان الحال قبل الانتخابات التشريعية والرئاسية الأخيرة. وبالتالي يمكن ممارسة سياسة "عض الأصابع" بين أنقرة ودمشق حتى تستحق الأفعال بدل الأقوال.
ولا شك أن الظروف الدولية تساعد الأتراك على التمهل والتروي في معالجة مشكلاتهم مع السوريين داخل بلادهم ووراء حدودهم الجنوبية. فالأزمة السورية تقع في ذيل الاهتمامات العالمية اليوم، ومواطن التباين الكثيرة بين الولايات المتحدة وروسيا تجعل إنجاز التفاهمات بينهما خارج القارة الأوروبية ثانويا وهامشيا حتى.
يقول ابن سينا "إن الوقت ينسي الألم ويطفئ الانتقام ويخنق الكراهية، فيصبح الماضي كأن لم يكن". قد يكون ذلك مفيدا لعدد من اللاجئين السوريين في تركيا، ولكن ليس مجديا بالنسبة للذين يعيشون تحت وطأة الانتظار لانتهاء أزمتهم، هؤلاء هم من يجب أن تكترث لهم الدول في إعادة بناء علاقتها مع سوريا، وهؤلاء من يجب أن تأخذهم الحسابات التركية في الاعتبار قبل الانتخابات البلدية المقبلة وبعدها.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة