شهد العالم خلال العقود الأخيرة قفزات هائلة في مجال التكنولوجيا، حتى أصبحت أداة أساسية تعيد تشكيل كافة القطاعات الاقتصادية والاجتماعية،
إلا أن هذا النمو المتسارع لا ينبغي أن يقتصر على تحقيق المكاسب الاقتصادية فحسب؛ بل يجب أن يتحول إلى "منصة" لتحقيق التنمية الشاملة والمستدامة، وهذا التحول يتطلب إعادة النظر في الأطر القانونية والتشريعية، بما يضمن إدارة التقدم التكنولوجي بشكل يحقق الفائدة للجميع دون الإضرار بالمجتمع أو البيئة.
إن النمو الاقتصادي يعكس زيادة الناتج المحلي الإجمالي وحجم الإنتاج، لكنه قد يكون نمواً "غير متوازن"، يركز على قطاعات معينة دون تحقيق توزيع عادل للفرص والثروات، وعلى الجانب الآخر، تشير التنمية إلى تحسين جودة حياة الأفراد على المستويات الاقتصادية، والاجتماعية، والبيئية، بما يعزز من قدرة المجتمعات على مواجهة التحديات المستقبلية؛ فالتكنولوجيا تلعب دوراً جوهرياً في هذا السياق، وتساهم في تحسين كفاءة الموارد، وتعزيز الابتكار، ودفع التحول نحو اقتصاد معرفي مستدام.
فعلى سبيل المثال في قطاع الصحة يمكن للتقنيات الحديثة مثل الذكاء الاصطناعي، وتعلم الآلة أن تُحدث ثورة في مجال التشخيص والعلاج، مما يحسن من فرص النجاة، ويقلل من التكاليف، وفي التعليم تسهم المنصات الرقمية في توفير التعلم للجميع، مما يعزز من بناء قدرات بشرية متطورة ومتكاملة؛ حيث يشير تقرير البنك الدولي لعام 2022 إلى أن "المنصات الرقمية الوصول إلى التعليم لما يزيد عن 1.5 مليار طالب حول العالم، وخاصة في المناطق النائية".
وفي مجالات الطاقة تتيح تقنيات الطاقة المتجددة حلولاً مستدامة لمشكلة التغير المناخي، مع تقليل الاعتماد على الوقود بشكله التقليدي والتوجه نحو الطاقة النظيفة؛ حيث ذكر تقرير الوكالة الدولية للطاقة (IEA) أن اعتماد تقنيات الطاقة المتجددة ساهم في تقليل الانبعاثات الكربونية العالمية بنسبة 12% بين عامي 2010 و2020، وهو تحول إيجابي.
لكن وعلى الرغم من الفوائد الهائلة للتكنولوجيا، فإنها تفرض تحديات غير مسبوقة على الأنظمة القانونية، ما يستدعي تطوير تشريعات متقدمة ومرنة تواكب هذا العصر الرقمي، ومن أبرز هذه التحديات حماية البيانات الشخصية وخصوصية الأفراد؛ ففي عصر الاقتصاد الرقمي، تعتبر البيانات هي "النفط الجديد"، إلا أن جمع البيانات وتحليلها – في الغالب الأعم - يفتقر إلى الشفافية، مما يهدد خصوصية الأفراد المقررة حمايتها بموجب الدساتير والقوانين، لذلك، يجب أن تركز التشريعات على حماية البيانات الشخصية، مع تحديد ضوابط صارمة لكيفية استخدامها وتخزينها، بما يتماشى مع المعايير الدولية التي نظمتها العهود والمواثيق والاتفاقيات الدولية والتشريعات الوطنية.
كما أن التطور التكنولوجي يصاحبه تزايد في التهديدات السيبرانية؛ فالجرائم الإلكترونية لا تؤثر فقط على الأفراد، بل تستهدف البنى التحتية الحيوية مثل شبكات الكهرباء والمستشفيات، وبالتالي يجب تطوير قوانين تضمن أمن الفضاء الرقمي، مع تعزيز التعاون الدولي لمواجهة الجرائم العابرة للحدود، كما تثير تطبيقات الذكاء الاصطناعي تساؤلات حول العدالة، والشفافية، والأخلاقيات، خاصة في مجالات مثل التوظيف، والرعاية الصحية، وإجراءات العدالة، ومن هنا تأتي الحاجة "ماسة" إلى قوانين تنظم استخدام الذكاء الاصطناعي، بطريقة رشيدة وفعالة وسليمة.
وكذلك ومع تسارع الابتكار، تزداد أهمية حماية حقوق الملكية الفكرية؛ إذ يجب تطوير تشريعات حديثة توازن بين حماية حقوق المخترعين وتشجيع الابتكار من خلال الوصول المفتوح للمعرفة، إذ أشارت المنظمة العالمية للملكية الفكرية (WIPO)، إلى أنه "تم تسجيل 3.4 مليون طلب براءة اختراع في عام 2021 وحده، مما يعكس تسارع الابتكار وضرورة حماية حقوق المخترعين"، مع ملاحظة أن تطوير التشريعات في مجال التكنولوجيا يحتاج إلى نهج متوازن فالتشريعات الصارمة جداً قد تعيق الابتكار وتحد من الاستثمارات، بينما يؤدي غيابها إلى انتشار الفوضى وسوء الاستخدام، ومن هنا فإن الحل يكمن في إيجاد أطر قانونية مرنة تدعم الابتكار، مع وضع ضوابط تحمي الحقوق الفردية والمجتمعية.
إن هذا كله لا يمكن أن يتم من دون تخطيط ومن هنا فلا بد من الضروري تعزيز التعاون الدولي في هذا المجال؛ فالتكنولوجيا عابرة للحدود، ورفع وعي المجتمعات بالتحديات التي تواجه الحقوق الرقمية وكيفية حماية الأفراد لأنفسهم في العالم الرقمي؛ فقطاعات التكنولوجيا ليست مجرد وسيلة لتعزيز النمو الاقتصادي، بل هي ركيزة أساسية لتحقيق تنمية شاملة ومستدامة... وهو ما لا يتحقق إلا بتشريعات مواكبة للتطور في كل حين.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة