وسط الغيوم الجيوسياسية التي تحاصر خرائط العالم أصابتني صدمة التقارير التي تتحدث عن تمدد الإرهاب في أفريقيا.
القارة الشابة باتت مهددة بشيخوخة الاستقرار والأمن والإرهاب، فلم تعد دول القارة بمنأى عن مخاطر هذه الجماعات الإرهابية، التي احترفت استثمار الوقت والفرصة، لمزيد من التغلغل والانتشار، حتى صارت تنظيمات عابرة للحدود.
الأرقام تتحدث، تقارير مؤشر الإرهاب العالمي لعام 2023 تقول: إن إقليم الساحل والصحراء يسجل أكبر معدلات وفيات جراء العمليات الإرهابية، خلال العشر سنوات الأخيرة، إذ ارتفعت معدلات الضحايا من (472) حالة إلى (1159) خلال تلك الفترة، لم يختلف هذا النموذج عن زيادة الهجمات في موزمبيق 40 ضعفا، وزيادتها بالصومال بنسبة 96%، حسب تقديرات نفس التقرير.
لا شك أن الصورة قاتمة، فلو اتسعنا بدائرة الرؤية نجد أن الحدود التي تربط بوركينا فاسو مع النيجر ومالي هي أكثر المناطق التي تعرضت لهجمات إرهابية، فضلا عن دولتي توغو وبنين، اللتين اتخذت منهما الجماعات الإرهابية أوكارا للاختباء، استنادا إلى أن طبيعتها الجغرافية تلائم الظروف المعيشية للعناصر الإرهابية الفارة من دول الجوار.
قبل الدخول في قراءة استراتيجية مواجهة هذه الجماعات الإرهابية، أريد أن أصطحب القارئ معي في جولة حول خريطة هذه التنظيمات في أفريقيا، وأبدأ من شرق أفريقيا لأتوقف أمام حركة الشباب الصومالية، التي بدأت في الانتشار القوي عام 2006، ثم خرجت جماعة "أنصار السنة"، التي ولدت من رحم جماعة الشباب في موزمبيق، التي بايعت بعد ذلك تنظيم "داعش"، في تحركاته داخل المنطقة الساحلية بالقارة.
أما في غرب أفريقيا فتأتي جماعة بوكو حرام، في مقدمة التنظيمات الأخطر في شمال نيجيريا، بالإضافة إلى حركة «ماسينان»، وكتائب الصحراء اللتين تنشطان في منطقة شمال مالي، فضلا عن التمدد المشترك والدائم، بين كل هذه الحركات وتنظيم داعش، الذي تعتبره معظم التنظيمات مرجعيتها في أدبيات التحرك وتجنيد كوادر جديدة.
وفي شمال أفريقيا فلا تزال بصمات تنظيم القاعدة بفروعه واضحة، تخرج منها حركات مثل "جند الخلافة"، التي تسربت في الصحراء الجزائرية والتونسية، وبدأت تستقل في مواردها، ووضعت معايير لتجنيد عناصرها.
إذن، نحن أمام أخطار كبرى تهدد أفريقيا على مختلف الأصعدة، وربما تقودنا بعض المؤشرات إلى توقع مزيد من العنف والإرهاب، وتغلغل هذه التنظيمات في ظل الاهتزازات السريعة والمتلاحقة، التي تموج بها القارة، ومن ثم فإن الواقع على الأرض يحتاج إلى فهم دقيق، وتحركات فاعلة تقودنا إلى مواجهة صحيحة لهذه الكيانات الإرهابية.
أول هذه التحركات هو إدراك حقيقة الأوضاع الاجتماعية للشعوب، والعمل على تحسينها، بتوفير جميع الاحتياجات المعيشية، ومواجهة البطالة حتى لا يصبح شباب القارة عرضة للتجنيد والإغراءات لهذه التنظيمات تحت سيف الحاجة، أيضا التحرك القوي من قبل قادة وزعماء القارة، والمنظمات الأفريقية الفاعلة في تصفير المشاكل، واستعادة الاستقرار، وإسكات صوت البنادق في الحدود المشتعلة، حتى لا تتخذ الجماعات الإرهابية من هذه الخرائط ملاذات آمنة للتمدد والانتشار، سيما أن كل الحركات الإرهابية عبر تاريخها تنتعش وقت الأزمات، وتمتلك أدوات استثمارها في الدخول والتمركز وتأسيس قواعد جديدة لها.
يأتي في السياق ذاته أهمية التحرك الاستراتيجي لدول القارة الشابة بما يحد من التدخلات الخارجية، التي تسعى دائما إلى تحقيق مصالحها الخاصة، دون مواجهة ظاهرة الإرهاب من جذورها، بل إن هذه التدخلات تأتي في سياق صراع النفوذ الدولي، بين القوى الدولية على حساب القارة، مثل ما شاهدنا الصراع الفرنسي-الروسي في مالي، الذي انتهى بمزيد من تمدد الجماعات الإرهابية، بدلا من مواجهتها.
أما الخطوة المفتاح في مسار مكافحة هذه التنظيمات فتنطلق من ضرورة وأهمية إحداث تنمية اقتصادية كبرى، وفتح أسواق مشتركة بين دول القارة، بما يحقق الانفتاح الكامل وغير المشروط بين الشعوب والحكومات، فلا شك أن التنمية الاقتصادية هي أقوى سلاح لحصار جماعات العنف والتطرف الذي بات يحاصر القارة الشابة.
الكاتب: رئيس تحرير الأهرام العربي
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة