التاريخ الذي يقصده الدكتور علي النعيمي هنا في الفصل الثاني من كتابه هو "حاضرنا الذي نعيشه عندما يراه أبناؤنا في المستقبل"
ستدرك جلياً وأنت تتصفح كتاب "الدولة الوطنية - صناعة النهوض"، لمؤلفه الدكتور علي راشد النعيمي قبل أن تقرأه بعناية، أنك أمام كمّ كبير من المعلومات التاريخية والتصورات والانطباعات التي سرعان ما تتحول إلى رغبة كبيرة بقراءة فصوله الخمسة دون تردد.
كتاب "الدولة الوطنية" للدكتور علي راشد النعيمي يعبر عن أفكار وأطروحات وتصورات شجاعة وجريئة جداً، تضع القارئ وجهاً لوجه أمام الأزمنة الثلاثة، كاشفاً عن العلاقة بين الدين والدولة والتعليم لتحقيق الازدهار والتقدم في المجتمع
"إرهاصات الوعي بالدولة الوطنية"، و"كيف نقرأ التاريخ؟"، و"الدين والتدين والدولة الوطنية"، و"الإخوان.. الخطيئة الكبرى"، و"بناء الأوطان يبدأ بالتعليم". هذه فصول الكتاب التي تسير بنا على مدى 181 صفحة من القطع المتوسط على حبال خطيرة، حادة، جريئة، بشجاعة في تحليل المحظورات السياسية والدينية في الخليج العربي والعالم العربي والعالم أجمع.
ظننت أنني سأستغرق وقتاً طويلاً في قراءة هذا الكتاب الصادر عن "دار كُتّاب للنشر والتوزيع" في دولة الإمارات العربية المتحدة بطبعته الأولى هذا العام، لكن سلاسة اللغة وبساطتها وقصر طول الفقرات والجمل، وانسيابية النص عموماً والأفكار الصادمة، جعلتني أنتهي من قراءته خلال أقل من يومين.
البيئات المختلفة التي عاشها الأكاديمي الإماراتي علي النعيمي، وكذلك التحولات الكبرى في العالم الإسلامي مثل الثورة الإيرانية، ودخول الاتحاد السوفيتي إلى أفغانستان، واقتحام جهيمان العتيبي الحرم المكي، فضلاً عن دراسته الماجستير في الولايات المتحدة الأمريكية والدكتوراه في المملكة العربية السعودية، كافية لتشكل فكر المؤلف السياسي ونظرته للحياة السياسية وكيفية استغلال الدين من قبل المنظمات الإرهابية للوصول إلى السلطة. ومن هنا، يقول الدكتور علي النعيمي في الصفحة 8 من كتابه "الدولة الوطنية": "هنا بدأت أضع مسافة بيني وبين كل من ينصّب نفسه متحدثاً باسم الإسلام ووصياً على المسلمين، بل اخترت أن أكون مستقلاً في تفكيري، ورافضاً وصاية الآخرين على عقلي، وإرادتي باسم الإسلام".
أعتقد أن الفقرة أعلاه تمنح القارئ صورة شاملة عما يريد النعيمي إيصاله في كتابه، الذي يعرض مقومات الدولة الوطنية في فصله الأول، والتي يعتبرها المؤلف ليست الدولة القومية ولا الطائفية ولا الدينية، بل دولة المواطنة بكل معانيها ودلالاتها؛ حيث تولدت لديه المعارف الوطنية من إلهام مؤسس الإمارات المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، وكذلك من والده راشد عبدالله النعيمي، الذي كان وزيراً للخارجية الإماراتية حتى عام 2006م.
في هذا الفصل تحليل وافٍ لمقاييس الدولة الوطنية ومفهومها الذي "يعني منظومة حقوق وواجبات والتزامات" (ص 32)، التي تعلو كل المفاهيم الأخرى للدولة وتعري أخطاءها، مثل فكرة الدولة القومية العربية في سوريا والعراق، وكيف كانت وسيلة لتهميش مكونات عرقية وثقافية غير عربية، فالمعنى الأرقى يتجلى في دولة التعايش والتسامح والتعددية التي تزيد من ثراء المجتمع وتقدمه الاقتصادي، وفقاً للكتاب.
والآن، كيف نقرأ التاريخ؟
أتذكر هنا مقولة شهيرة هي "قبل أن تقرأ التاريخ، اقرأ عن المؤرخ.. وقبل أن تقرأ عن المؤرخ، اقرأ عن ظروفه".
إن التاريخ الذي يقصده الدكتور علي النعيمي هنا في الفصل الثاني من كتابه، هو "حاضرنا الذي نعيشه عندما يراه أبناؤنا في المستقبل" (ص 49)، ولعل المسألة الأهم هي الخلط بين التاريخ والدين، والتركيز على السلبيات والأخطاء بدلاً من الإيجابيات والصور المشرقة، هذا ما يؤدي بطبيعة الحال إلى خلل في الفكر الجمعي للأجيال التي تعتبر الدين غطاء لكل أفعالها، خاصة من جهة الخلافات التاريخية.
كل هذا يسبب فوضى دينية يعيشها الشباب المسلم في هذا العصر، بسبب "الخلط الشديد بين الثوابت الدينية والمتغيرات التاريخية ونسبية التراث" (ص 61)؛ حيث يعتبر المؤلف أن تعاملنا مع تاريخنا كان سلبياً للغاية، من خلال ظهور تنظيم داعش الإرهابي كأبرز مثال على ذلك.
ينتهي الفصل الثاني بالدعوة إلى توضيح حاجة الأجيال الشابة إلى ثقافة الثقة بالذات والانفتاح على العالم، عبر إبراز الكثير من تجارب الدول التي تتبنى نهج التسامح، ولا سيما دولة الإمارات.
وأنا أقرأ الفصل الثالث من الكتاب بعنوان "الدين والتدين والدولة الوطنية" بات جلياً لديّ أن الإسلام دين منفتح على كل الثقافات في العالم أجمع، وأن المحافظة على الدين لا تتعارض مع الاندماج في الوطن، "الاندماج الثقافي لا يعني التخلي عن الدين، لكن الذين خلطوا بين الدين والثقافة يحافظون على الثقافة؛ لأنها عندهم دين" (ص 99)، وهذا هدف أساسي للمجلس العالمي للمجتمعات المسلمة، الذي يتخذ من العاصمة الإماراتية أبوظبي مقراً له، ويرأسه الدكتور علي النعيمي.
يمكن القول إن أسوأ ما يعترض المجتمعات المسلمة في العالم أجمع هو تحكمها من قبل بعض المنظمات الإسلامية التي تعتبر نفسها وصياً على المسلمين في دول العالم، عبر استيراد نماذج من الماضي والارتهان لماضي مجتمعات أخرى أو أحزاب إسلاموية، وغيرها من المحاور التي شرحها الكتاب بالتفصيل مثل "أزمات الفقه المستورد".
ولكن لا بد من تحرير المجتمعات المسلمة جذرياً من خلال "تحرير المجتمعات المسلمة من التدين المستورد أو الفقه المستعار عموماً" (ص 112)، و"تحقيق الاستقلال المالي للمساجد والمراكز والمنظمات الإسلامية"، والأهم "تحرير المجتمعات المسلمة من سيطرة الجماعات السياسية" (ص 113).
الحديث عما فعلته "جماعة الإخوان المسلمين" شائك ومعقد، والمؤلف الدكتور علي النعيمي أفرد لهذا الموضوع الفصل الرابع من الكتاب، قيد المناقشة، ولعل الصدمة تكون بمعرفة أن هذا التنظيم الإرهابي كان نواة للعديد من التنظيمات الأخرى في العالم "كان الإخوان هو الرحم الذي خرجت منه جماعات العنف والإرهاب، التي فككت الدول وشرذمتها، وأدخلتها في دوامات متتالية من تطرف وعنف وإرهاب وحروب مستعرة" (ص 122).
تسير الصدمة التي يحدثها كتاب "الدولة الوطنية" نحو أمثلة عدة، فها هو ابن لادن والظواهري والبغدادي خلاصة عمليات التثقيف التي تقوم به أسر الإخوان، هم نتاج فكر وأيديولوجية الإخوان بكل الأحوال، هم وتنظيماتهم التي اختلقوها ودمروا من خلالها الدول والبشر.
لمؤلف الكتاب باع طويل جداً في سلك التعليم في بلده الإمارات، حيث يبرع في تقديم نتائج المزج بين التعليم والدين بمعناه المتطرف، وهو الذي كان الرئيس الأعلى لجامعة الإمارات العربية المتحدة ورئيس دائرة التعليم والمعرفة في أبوظبي، ففي الفصل الخامس والأخير من الكتاب "بناء الأوطان يبدأ بالتعليم"، يستعرض الدكتور علي النعيمي تجربة الإمارات الرائدة في التعليم، ولكن "التحدي الحقيقي للنظم التعليمية الحديثة هو في تعليم الفكرة والقيمة والمهارة، هذا الثلاثي الذي تقوم عليه المجتمعات الحديثة.." (ص 160).
إن التعليم المقصود في هذا الكتاب هو تعليم التسامح وليس الكراهية، من خلال وضع منهجية لتجديد التعليم الديني، وإصلاح التعليم الديني في المجتمعات المسلمة.
أخيراً: كتاب "الدولة الوطنية" للدكتور علي راشد النعيمي يعبر عن أفكار وأطروحات وتصورات شجاعة وجريئة جداً، تضع القارئ وجهاً لوجه أمام الأزمنة الثلاثة، كاشفاً عن العلاقة بين الدين والدولة والتعليم، لتحقيق الازدهار والتقدم في المجتمع.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة