الاقتصاد البريطاني يتعثر.. مستقبل قاتم لأكبر "قوة" في أوروبا
"مستقبل قاتم لاقتصاد بريطانيا"، هكذا توقعت صحيفة الفايننشال تايمز، بعد مخاوف من أن تمتد حالة الركود التي تخيم عليه إلى 2023.
يخيم شبح الركود على المملكة، إذ أفاد بنك إنجلترا الأسبوع الماضي بأن الاقتصاد البريطاني سينكمش في كل فصل من عام 2023.
وسدد صندوق النقد الدولي ضربة أخرى لحكومة رئيس الوزراء المحافظ ريشي سوناك عندما توقّع أن تكون المملكة المتحدة الدولة الوحيدة ضمن بلدان مجموعة السبع التي تسجّل نموا سلبيا في 2023.
وسجّلت المملكة المتحدة عام 2020 أكبر انكماش ضمن مجموعة السبع جرّاء تداعيات كوفيد. وما زالت البلد الوحيد في المجموعة الذي لم يعد الناتج فيه بعد إلى مستويات ما قبل الوباء.
ويشهد الاقتصاد البريطاني تدهورا متزايدا في الآونة الأخيرة فلا يزال يتجه بقوة إلى دائرة الركود، ليس فقط بسبب تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية والجائحة، وإنما أيضا جراء بريكست.
اقتصاد المملكة المتحدة، قد انكمش بوتيرة أسرع من المتوقع خلال الربع الثالث من العام الماضي، نتيجة تباطؤ استثمار الشركات وانخفاض دخل الأسر.
- بريكست.. ماذا جنت بريطانيا من عملية الهروب الكبير؟
- "حي المال" في لندن يتصدع.. تواصل فرار أثرياء بريطانيا
بدوره حذر البنك المركزي البريطاني من أن الاقتصاد قد يواجه أطول فترة ركود منذ أن بدأت السجلات الموثوقة قبل قرن من الزمان.
أكبر قوة اقتصادية في أوروبا انكمش إجمالي الناتج الداخلي فيها بنسبة 0,2 في المئة في الأشهر الثلاثة الأخيرة من 2022 على خلفية الحرب في أوكرانيا.
يقول جون سبرينجفورد، نائب مدير مركز الإصلاح الأوروبي، إن مغادرة لندن للسوق الموحدة للاتحاد الأوروبي قلل من حجم الاستثمارات التي تأتي إلى بريطانيا بنسبة 11 بالمئة، ومن تجارة السلع بنسبة 7 بالمئة في الربع الثاني من عام 2022، وقد ساهم ذلك في تأخر بريطانيا عن جميع الاقتصادات الرئيسية الأخرى .
أما المحللة لدى "أي جي بل" لورا سوتر " فقالت، بينما لا يمكننا وضع علامة ركود على الاقتصاد، إلا أنه من الواضح أن المملكة المتحدة تعاني ويشعر الجميع بالضائقة في اقتصاد البلاد".
فرار الأثرياء
وامتدت تلك التداعيات إلى لندن العاصمة، التي تضم حي المال العالمي الشهير، فقد غادرها أكثر من 1000 ثري بريطاني في 2022، وسط مناخ سياسي مضطرب واقتصاد منهك، عقب "بريكست".
تقرير شركة "هينلي آند بارتنرز" للاستشارات،كشف أن هناك إجمالي 1400 شخص تقدر ثروة كل منهم بمليون دولار أو أكثر خرجوا من المملكة المتحدة في 2022، حسبما أفادت وكالة الأنباء الألمانية.
وتأثرت مستويات المعيشة في بريطانيا من ارتفاع التضخم الذي وصل لأعلى مستوى في 41 عاما عند 11.1 بالمئة في أكتوبر تشرين الأول، كما تستشعر الشركات والأفراد تأثيرا متزايدا من الرفع السريع لأسعار الفائدة من جانب بنك إنجلترا منذ ديسمبر كانون الأول 2021.
وفق أحدث تعاملات انخفض الجنيه الإسترليني 0.24 إلى 1.2093 دولار قبل يوم واحد من إعلان بيانات الناتج المحلي الإجمالي للربع الرابع.
وتوقع بنك إنجلترا الأسبوع الماضي أن تدخل بريطانيا فترة من الركود الطفيف لكنها ستكون طويلة، تبدأ في الربع الأول من هذا العام وتستمر خمسة أرباع.
ورفع بنك إنجلترا أسعار الفائدة للمرة العاشرة على التوالي يوم الخميس لكنه تخلى عن تعهده بمواصلة زيادتها "بقوة" إذا لزم الأمر وقال إن التضخم ربما بلغ ذروته.
ويحاول البنك تهدئة المخاطر الناجمة عن معدل التضخم البريطاني البالغ عشرة بالمئة دون أن يزيد من مخاطر الركود المتوقع.
وأضاف أن ذلك من شأنه أن يساعد في خفض التضخم إلى نحو أربعة بالمئة بنهاية العام الحالي. وتوقع بنك إنجلترا في السابق أن يبلغ معدل التضخم في 2023 نحو خمسة بالمئة.
وأظهرت بيانات نشرها مكتب الإحصاء الوطني البريطاني الجمعة أن الناتج المحلي الإجمالي للبلاد لم يشهد أي تغيير في الأشهر الثلاثة الأخيرة من عام 2022.
كان خبراء اقتصاديون استطلعت رويترز آراءهم توقعوا نموا صفريا في الربع الرابع من العام.
في الوقت نفسه، نقلت وكالة بلومبرج للأنباء عن يائيل سيلفين، كبير خبراء الاقتصاد لدى مؤسسة "كيه.بي.إم.جي بريطانيا" للاستشارات المالية قوله إن "الاقتصاد البريطاني اختتم عام 2022 بإشارة إيجابية ضئيلة، حيث تفادي بفارق طفيف السقوط في دائرة الركود بالمعنى الفني، ولكن مازال من المتوقع أن يتعرض لمرحلة ركود معتدل مطولة خلال العام الجاري".
وأضاف أن "الأرقام الخاصة بشهر كانون الأول/ديسمبر تشير إلى أن الاقتصاد البريطاني مازال في حالة هشة".
القطاع الخاص
امتدت المخاوف إلى القطاع الخاص، فقد أظهرت نتائج مسح أن النشاط الاقتصادي للقطاع الخاص في بريطانيا تراجع في يناير كانون الثاني بأسرع وتيرة له في عامين.
وعزت الشركات ذلك إلى رفع بنك إنجلترا أسعار الفائدة إلى جانب الإضرابات وضعف طلب المستهلكين.
وتراجع مؤشر ستاندرد اند بورز جلوبال/سي.آي.بي.إس المجمع لمديري المشتريات إلى 47.8 في يناير كانون الثاني مقابل 49.0 في ديسمبر كانون الأول، عند الحد الأدنى لنطاق توقعات الخبراء في استطلاع أجرته رويترز، كما أن هذه القراءة هي الأقل منذ يناير كانون الثاني 2021. وتشير أي قراءة دون 50 إلى انخفاض الإنتاج.
وقال كريس ويليامسون كبير اقتصاديي الأعمال في ستاندرد اند بورز جلوبال "ضعف قراءة مؤشر مديري المشتريات بأكثر من المتوقع في يناير تؤكد احتمالية دخول المملكة المتحدة في ركود".
وأضاف أن "الخلافات في قطاع الصناعة ونقص العمالة وخسائر الصادرات وارتفاع تكاليف المعيشة وزيادة أسعار الفائدة كلها عوامل أدت إلى تفاقم وتيرة التراجع الاقتصادي مرة أخرى في بداية العام".
صندوق النقد يوضح الأسباب
وفق آخر تقديرات صندوق النقد الدولي. من المقرر أن ينكمش إجمالي الناتج المحلي السنوي لبريطانيا بنحو 0.6 في المائة في 2023، ويرجع ذلك في الغالب إلى ارتفاع الضرائب، وارتفاع أسعار الفائدة، وارتفاع تكلفة الطاقة، فضلاً عن انخفاض الإنفاق الحكومي.
وساءت النظرة المستقبلية للمملكة المتحدة منذ أن قدر صندوق النقد الدولي نموًا في عام 2023 بنسبة 0.3 في المائة في أكتوبر الماضي.وقال، إن آفاقها الآن أسوأ من تلك التي تتعرض لها روسيا الخاضعة للعقوبات.
موجة إضرابات
وقلص خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي حجم اقتصادها بنسبة 5.5% عما كان يمكن أن يصل إليه لو لم تخرج من الاتحاد، بالإضافة إلى انكماش الخدمات العامة التي أدت إلى الإضرابات في قطاعات السكك الحديدية والخدمة الصحية العامة.
وتدفع أسعار الطاقة خصوصا بسبب الحرب في أوكرانيا التضخم إلى ذروته في المملكة المتحدة، مقتربا من 11%، ما يؤدي إلى أزمة حادة في كلفة المعيشة.
وأدى ارتفاع التضخم لمستويات مرتفعة لحدوث إضرابات جديدة في القطاع العام على أساس أسبوعي تقريبًا، وسط مطالبات بزيادة الأجور لمواجهة التضخم.
وشارك العاملون في التمريض والإسعاف في إضرابات منفصلة ما وصف بأنه أكبر إضراب في تاريخ جهاز الصحة العامة الذي بدأ عمله قبل 75 عاما.
ويطالب العاملون بزيادة الأجور كي تناسب أسوأ تضخم تشهده بريطانيا منذ أربعة عقود في حين تقول الحكومة إن تكلفة ذلك ستفوق قدرتها وستؤدي إلى مزيد من ارتفاع الأسعار وبالتالي رفع أسعار الفائدة ومدفوعات الرهن العقاري.
وفي أول فبراير شباط، شارك ما يصل إلى نصف مليون بريطاني من المعلمين وموظفي القطاع العام وسائقي القطارات في أكبر إضراب منسق منذ عقد بسبب الأجور، وتهدد اتحادات العمال بمزيد من تعطيل الأعمال على نطاق واسع، مع إصرار الحكومة على رفض المطالبات بزيادة الأجور
في المقابل، حذر اتحاد الخدمات العامة والتجارية، الذي يمثل نحو 100 ألف موظف حكومي يعملون في أكثر من 120 هيئة، حكومة رئيس الوزراء ريشي سوناك من أن الإعلان عن إجراء منسق آخر أمر لا مفر منه.
مستقبل وحلول
في محاولة للخروج من الأزمة، أجرى رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك تعديلات وزارية الثلاثاء الماضي شملت تفكيك وزارتين بما يتلاءم بشكل أفضل مع تعهداته بتحفيز الاقتصاد وتحسين شعبية حزبه قبل الانتخابات المتوقعة العام المقبل.
وأنشأ سوناك وزارة جديدة لأمن الطاقة وهدف صافي صفر انبعاثات بقيادة الوزير جرانت شابس وثلاث وزارات أخرى تركز إحداها على العلوم والابتكار، وهو شغف شخصي لسوناك.
ويحاول وزير المالية السابق المليونير الذي ترأس قبل ذلك أحد صناديق التحوط توجيه عجلة الاقتصاد خلال فترة طويلة من التضخم الذي زاد على عشرة بالمئة والركود، وهو الوضع الذي تفاقم بسبب زيادة تكلفة الطاقة.
كما يتعرض لضغوط خلال محاولاته لإثبات اعتقاده بأن بريطانيا يمكنها جني ثمار خروجها من الاتحاد الأوروبي من خلال تطوير علاقات تجارية جديدة مع شركاء دوليين.
وقال سوناك عبر تويتر "على الحكومة أن تعكس أولويات الشعب البريطاني وأن تصر على تلبيتها لهم... التغييرات سوف تخصص فرقا لجهود من شأنها بناء مستقبل أفضل لأطفالنا وأحفادنا".
وتم توسيع مسؤوليات وزيرة التجارة كيمي بادينوك لتشمل الأعمال والتجارة.
كما تعهد وزير المالية البريطاني جيريمي هانت قبل أيام، بمعالجة ضعف الإنتاجية في البلاد من خلال إصلاحات مالية لمرحلة ما بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي لتعزيز النمو، لكنه أشار إلى التزامه أيضا بالزيادات الضريبية التي أثارت غضب بعض المشرعين في حزب المحافظين الذي ينتمي إليه.
ويستعد هانت، الذي حافظ على استقرار الأسواق المالية بعد الاضطرابات التي أحدثتها "الميزانية المصغرة" لرئيسة الوزراء السابقة ليز تراس في سبتمبر أيلول من العام الماضي، للإعلان عن خطة للنمو في بيان الموازنة في مارس آذار المقبل.
ورد هانت على ما يُقال عن التراجع الاقتصادي في بريطانيا وركز على صناعات النمو مثل التكنولوجيا الرقمية والتحول إلى صناعات جديدة ذات قيمة عالية مثل الطاقة المتجددة والصناعات التحويلية المتقدمة.
وقال هانت في خطاب ألقاه في بلومبرج بلندن "الثقة في المستقبل تبدأ بالصدق بشأن الحاضر، ويتعين علينا ألا نتجنب التحدي الأكبر الذي نواجهه وهو ضعف إنتاجيتنا".
وأضاف "خطتنا للازدهار في الأمد الطويل تعالج هذا التحدي بشكل مباشر. إنها خطة ضرورية وفعالة وأصبحت ممكنة بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وستنجح إذا أصبحت عاملا لتحفيز الخيارات الجريئة التي يجب أن نتخذها".
وقال هانت إن بريطانيا بحاجة إلى ضرائب أقل في المستقبل كما دعا إلى ضبط الإنفاق العام.
الاقتصاد البريطاني كيف كان؟
اقتصاد بريطانيا الذي يتراجع حاليا، حقق معدلات نمو بوتيرة أسرع مما كان يُعتقد في السابق في الأشهر الثلاثة الأخيرة من العام 2020.
وقال مكتب الإحصاءات الوطنية في بيان سابق، إن الناتج المحلي الإجمالي زاد 1.3 بالمئة في الفترة بين أكتوبر تشرين الأول وديسمبر كانون الأول من 2020.
كما سجل الاقتصاد معدل نمو سنوي للناتج المحلي الإجمالي عام 2021 بنسبة 7.52% وزيادة 18.56% مقارنة بعام 2020.
وجاءت الزيادة الكبيرة بعد فترة تباطؤ في النمو الاقتصادي جراء جائحة كوفيد-19 عام 2020 والتي شهدت معدل نمو اقتصادي -11.03% ونسبة انخفاض 12.64% عن عام 2019، بحسب منصة "macrotrends" للإحصاءات.
وعام 2019 سجل الاقتصاد البريطاني نمواً سنوياً في الناتج المحلي الإجمالي 1.60%، لكنه كان متراجعاً بنسبة طفيفة تعادل 0.1% عن نتائج عام 2018 الذي سجل خلاله معدل نمو قدره 1.71% بتراجع أيضاً نسبته 0.74% عن عام 2017.
الاقتصاد البريطاني في 2023
خفض صندوق النقد في آخر تحديثاته، مرة أخرى توقعاته للمملكة المتحدة، مرجحاً انكماشاً بنسبة 0.6 في المئة مقابل نمو بنسبة 0.3 في المئة كان قد توقعه في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
وترجح التوقعات تراجع المملكة المتحدة اقتصادياً عن ألمانيا وحتى عن روسيا الخاضعة لعقوبات، إذ من المتوقع أن يشهد البلدان نمواً طفيفاً هذا العام.
وتأتي توقعات الركود في المملكة المتحدة على خلفية إضرابات القطاع العام على خلفية الأجور ومعدل التضخم الذي لا يزال يسجل أكثر من 10 في المئة مع اشتداد وطأة أزمة تكاليف المعيشة.
aXA6IDMuMTM1LjIwNS4yMzEg
جزيرة ام اند امز