مؤخرا وفور التأكد من فوز "جو بايدن" في الانتخابات الأمريكية الأخيرة، كثرت الكتابات التي تنحو في اتجاه تقييم سياسة الضغط الأقصى، التي انتهجها "ترامب" تجاه إيران بعد انسحابه من الاتفاق النووي.
حيث انقسم الراصدون لهذه السياسة والمتابعون لها إلى فريقين، فريق يرى أنها كانت سياسة ناجعة وناجحة، حيث قيدت وحجمت سياسات النظام الإيراني وكانت بمثابة المقص الذي بتر أجنحة النظام . وفريق آخر رأى العكس تماما، بل زاد بأنها كانت سياسة فاشلة أعطت نتيجة عكسية لما كان يريده ترامب.
أمام هذا الكم من الدراسات والكتابات، وأقصد هنا تلك التي خرجت من معاهد بحثية عالمية معترف بها دوليا، يمكن لنا الآن أن نسلط الضوء على بعض من الرأيين المتناقضين في الحكم على تلك السياسة، وذلك عبر مجموعة من المعايير التي تتحرك في الداخل الإيراني وفي المنطقة الإقليمية أي منطقة الجوار الإيراني، وأيضا في الداخل الأمريكي .
أبدأ بالرأي القائل بنجاح سياسة الضغط الأقصى، والذي يبنى على المقارنة قبل فرض تلك السياسة وبعدها. فإيران بالتأكيد بعد العقوبات الأمريكية ليست كما كانت قبلها، وهؤلاء يطرحون سؤالا افتراضيا مفاده، عليكم تخيل سياسة النظام الإيراني بدون هذه العقوبات؟ من المؤكد أن الوضع سيكون أسوأ، سواء في المنطقة الإقليمية أو حتى في الأنشطة الإيرانية أو غيرها.
هنا يشيرون بالأرقام إلى كم المليارات التي فقدتها الخزينة الإيرانية، خصوصا في ميزانية السنة الفارسية التي كانت في مارس من هذا العام 2020.
فكثير من بنود الموازنة بدت خاوية، خصوصا فيما يتعلق بحياة ومعيشة الناس، الصحة والتعليم، فالعقوبات تواكبت مع فيروس كورونا الذي كانت إيران أولى ضحاياه، إذ سجلت أرقاما قياسية، بل شكلت بؤرة وباء في منطقة الشرق الأوسط ودول الجوار .
في إطار تقييم الموازنة الإيرانية تمت الإشارة إلى "بند تمويل المليشيات الإيرانية المنتشرة في دول الجوار "العراق، لبنان، سوريا، اليمن". فسياسة الضغط الأقصى الأمريكية نجحت فعلا في تقليل التمويل لتلك المليشيات مما أثر بشكل كبير على نشاطاتها في المنطقة، ولعل مليشيات العراق كانت نموذجا على ذلك، خصوصا بعد موجة الاحتجاجات العراقية التي أطاحت بعادل عبدالمهدي "واستمرت فترة حلقات العقوبات حتى تولية مصطفى الكاظمي" لرئاسة الوزراء .
لكن النقطة الفاصلة في تلك السياسة هي ما تم خارج البند الاقتصادي، أو ما يمكن تسميته سياسة الردع الخشن التي اتبعتها أمريكا، سواء علانية أو حتى سرا .
هنا نشير إلى مقتل "قاسم سليماني في بداية هذا العام يناير 2020 وإلى اغتيال العالم النووي الإيراني "فخري زاده" في نهايته، وبين الإثنين ممارسات كثيرة خشنة تمت بين الإيرانيين وبين أمريكا ومعها حلفاؤها في المنطقة .
سياسة اصطياد الرؤس الكبيرة التي اتبعتها أمريكا مع إيران أثبتت أنها سياسة مؤلمة لإيران ومؤثرة أكثر بكثير من العقوبات الاقتصادية. بعد أن أثبت بعض الباحثين أنها سياسة لا تضر النظام الإيراني بقدر ما تضر الشعب الإيراني نفسه، الذي بقياس دقيق تم الكشف على أن ثلثي الشعب الإيراني أصبح يمثل جيلا حقيقيا للعقوبات، سواء الذين ولدوا عام 1979 وهو عام الثورة الخمينية، أو أولئك الذين ولدوا قبل ذلك التاريخ وما زالوا أحياء، فجميعهم جيل العقوبات، عايشها، وعانى منها وتولدت لديهم قناعة عمل النظام على غرسها في الشعب، وهي الالتفاف حول النظام حتى لو كان الشعب كارها له، لأن البديل هو غرق السفينة بمن عليها .
لذا كانت سياسة اغتيال الرؤس الكبيرة، أو "الصيد السمين" مؤثرة على أداء النظام في نقطتين، حيث ثبت بالدليل القاطع أن النظام رغم العقوبات الاقتصادية استمر فيهما. أولها الممارسات الإرهابية في دول الجوار وتربية وتسمين المليشيات الإرهابية، وهذا كان دور وتنفيذ "قاسم سليماني"، الذي تحدثت عنه كثير من الدراسات الأمريكية على أنه لم يكن مجرد ذراع إيرانية تنفيذية فقط، وإنما كان بمثابة مفكر إيراني قادر على صنع سياسات وتنفيذها في آن واحد.
فهو صاحب نظريتين خطيرتين، الأولى هي تعميق الدور الاستراتيجي لإيران في المنطقة وفي دول الجوار حتى يصل إلى أقصى غاياته وهو الاحتلال أو شبه الاحتلال، أي إلغاء الدولة الوطنية المركزية وتفكيكها وشل القرار الوطني فيها، وفرض سياسة القوة الموازية عبر صناعة ما يشبه الجيوش الموازية .
هذا منهج طُبق في لبنان عبر حزب الله وسلاح وصواريخ حزب الله التي اختطفت الدولة وقرارها السياسي، وحدث في العراق أيضا عبر تأسيس ما سمي بالحشد الشعبي وعدد من المليشيات، وصنع رؤوس سياسية عراقية بولاء إيراني كامل لإدارة الدولة كما حدث بالضبط مع "نوري المالكي" و"عادل عبدالمهدي" .
النقطة الأخرى في استراتيجية "قاسم سليماني هي تشبيك الملفات مع بعضها، لدرجة أدت إلى صنع مزيد من العقد في الحبل الواحد، بما يجعل من المستحيل حلها بدونه هو شخصيا.
فالتشبيك والتعقيد تمثل في عدد من الملفات خصوصا في العراق وسوريا ولبنان واليمن، فمن أدار الرؤية الإيرانية في سوريا هم أصحاب تجربة حزب الله في لبنان، والتفاوض على الملف كان في أوقات كثيرة يبدأ من لبنان، وهذا ما حدث في ملفات العراق واليمن .
بعد مقتل "قاسم سليماني" اتضح للنظام الإيراني أنه غير قادر على الاستمرار في السياسة التي صنعها وأدارها ونفذها "قاسم سليماني"، ومكانه فارغ حتى الآن.
هذا بالفعل الذي تم مع "العالم النووي فخري زاده"، لأنه حسب ما قيل وكتب عن الرجل أنه يشبه "عبدالقدير خان" أبو القنبلة الذرية الباكستانية العارف بأسرارها وصانعها. فخري زاده هو سر الأسرار، وحامل الكيفية التي بها يمكن أن يصلوا إلى تصنيع قنبلة ذرية. وبالتالي كان اغتياله فرملة كاملة للاستمرار في الملف .
إذا تلك كانت الرؤية التي تؤكد أن سياسة الضغط الأقصى كانت مؤثرة ومؤلمة ومقيدة للنظام الإيراني.
في المقال القادم نتحدث عن الرؤية المناقضة لذلك، والتي ترى أن سياسة الضغط الأقصى لم تنتج ما كان مطلوبا منها.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة