تجديد الخطاب الإسلامي من دعائم البناء الحضاري ومن شروط الانفتاح الواعي على النماذج الحضارية والأنساق الثقافية المختلفة
يعد تجديد الخطاب الإسلامي من دعائم البناء الحضاري، ومن شروط الانفتاح الواعي على النماذج الحضارية والأنساق الثقافية المختلفة إعماراً للأرض وإعلاءً لصروح الحضارة وتعزيزاً للمشترك الإنساني. وقد أكدت التجربة التاريخية الإسلامية أنه كلما استندت المحاولات التجديدية إلى أسس مرجعية ومنهجية مستمدة من الوحي الإلهي، حققت غاياتها وبلغت أهدافها ومراميها. ذلك أن التفاعل مع الوحي المرشد والمسدد بمنهاج الاستمداد الموفق بين النقل والعقل والواقع، هو الضمانة الحقيقية لنجاح كل محاولة تروم تجديد الخطاب الإسلامي الموجه بالآيات القرآنية والكونية، والباني للإنسان والحضارة الإنسانية. ولهذا كانت الآيات في القرآن الكريم (كتاب الله المسطور) كالآيات في الكون (كتاب الله المنظور) تدل إحداهما على الأخرى، وتحفّز الإنسان على البذل والعطاء في ظل قيم البر والإنماء، والمودة والصفاء باعتبار المجالين، مجال القرآن ومجال العمران هما للإنسان، يتزود من الأول قيم الهداية والرشاد ويسعى في الثاني لإشادة نماذج في الحضارة والثقافة والفنون والصناعات والعلوم والآداب.
وإذا كانت طبيعة هذه الأصول، حافزة على الفعل، دافعة إلى الإبداع داخل الدائرة الإنسانية المشتركة، حيث الخطاب القرآني خطاب للإنسان حيثما كان، وحيث الكون مجال استخلاف لهذا الإنسان، فإن التجلي الأول لهذا النموذج من البناء الحضاري الإسلامي في عصور الإسلام المزدهرة قد كشف إمكانات هائلة لهذا الامتزاج والتداخل والتكامل والتواصل بين القيم الحضارية والإنسانية المشتركة، وعن إمكانات العقل المسلم وقدراته في الإبداع العلمي في مختلف الحقول والمجالات. ولكن الناظر إلى العصور المتأخرة، يلحظ أن ثمة ضموراً كبيراً في هذا المجال، ونكوصاً وتراجعاً خطيراً عن عطاءات النموذج الأول. ولا خلاف في أن مرجع ذلك ليس إلى الأصول نفسها وإنما إلى طبيعة الفكر والنظر التي طرأت عليها وسائط وحالت دون استمدادها القوي حوائل متعددة، فلم تعد قدرتها على العطاء كما كانت.
أولت دولة الإمارات العربية المتحدة عناية خاصة لتجديد الخطاب الإسلامي بما يجعله متمسكاً بالأصل ومنفتحاً على العصر، إيماناً منها بأن مدخل تجديد الفكر والخطاب لا يمكن إلا بمعرفة عميقة وعلاجات دقيقة لعناصر العجز والوهن فيه
إنه بتعبير آخر، الفرق بين الخطاب الإسلامي قديماً الذي كانت له استجابة كبرى للتحديات المعاصرة لزمانه، من خلال اتصاله الحي بأصول الفكر ومصادر المعرفة وانفتاحه على الأنساق الثقافية الأخرى، وبين الخطاب الإسلامي الحديث والمعاصر الذي استجاب للحظات ونداءات الجمود والانحطاط والسكونية والتقليد أكثر من استجابته لنداء الأصول وانتباهه إلى إرشاد الآيات المبثوثة في النصوص والآفاق والأنفس.
لقد كان للانفصال التدريجي للفكر والعلوم والمعارف وللقيم والسلوك والأخلاق عن مصدر الإلهام والانبثاق الأول تداعيات كثيرة، أدت بكثير من الناس -سواء عن وعي أو عن غير وعي- إلى إحلال الفكر النسبي البشري محل الوحي المطلق، وإلى جعل التحيزات الضيقة والتصنيفات المفرقة حاكمة ومهيمنة، كما أدى التقليد والتكرار إلى إهمال ملَكة الإبداع والابتكار في العقل المسلم وجعله مجرد أداة لنقل الصور والنماذج الجاهزة من الماضي أو الحاضر، من غير نظر وتدقيق ولا فحص وتمحيص. وحلت بذلك أبواب التأثر ومداخل الاستلاب للأفكار والمفاهيم الوافدة التي بدأت تصوغ في عالمنا نموذجاً آخر في الثقافة والمعرفة والسلوك، من خلال تحيّزها لنموذجها الخاص على حساب المشترك الإنساني وقيم الحوار والتواصل الديني والثقافي والحضاري
ولقد أولت دولة الإمارات العربية المتحدة عناية خاصة لتجديد الخطاب الإسلامي بما يجعله متمسكاً بالأصل ومنفتحاً على العصر، إيماناً منها بأن مدخل تجديد الفكر والخطاب لا يمكن إلا بمعرفة عميقة وعلاجات دقيقة لعناصر العجز والوهن فيه، وبأن العمل في هذا الاتجاه ينبغي أن يركز على معالجة المشكلات التاريخية القديمة التي ما تزال مستمرة ومهيمنة على رغم فشل رهانها في النهوض بالأمة وفي إقلاعها الحضاري، ورفع التحديات الراهنة التي تعكسها الأحداث والتطورات المتسارعة، وإرادات الهيمنة والتوسع لدى بعض النماذج على حساب نماذج أخرى.
نقلا عن "الاتحاد"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة