عادت أجواء التوتر النووي لتخيم من جديد على شبه القارة الهندية في جنوب آسيا، إثر التصعيد العسكري الأخير بين الجارتين النوويتين: الهند وباكستان.
فمع كل مرة يشتعل فيها فتيل النزاع هناك، يحبس العالم أنفاسه، خوفًا من لجوء أي من الطرفين إلى ضغط الزر النووي، بعد أن تم ضغطه للمرة الأولى والأخيرة خلال القصف الأمريكي لمدينتي هيروشيما وناغازاكي عام 1945 إبان الفصل الأخير في الحرب العالمية الثانية.
وعلى الرغم من أن احتمال استخدام السلاح النووي لا يزال مستبعدًا حتى الآن، إلا أن استمرار التوترات في صراعٍ ممتد منذ عام 1947، ومشبعٍ بتاريخٍ طويل من العداء والكراهية المتبادلة، يجعل احتمال الخطأ في التقدير واردًا، بل وخطيرًا.
واشتعل فتيل الأزمة الأخيرة عقب قيام طائرات حربية هندية بشن غارات جوية على مواقع داخل الأراضي الباكستانية، ردًا على هجوم مسلح استهدف موقعًا سياحيًا في كشمير الخاضعة للإدارة الهندية، وأسفر عن مقتل 36 شخصًا، معظمهم من المدنيين الهنود، وبينما سارعت نيودلهي إلى تحميل إسلام آباد المسؤولية، متهمةً إياها بإيواء جماعات مسلحة تنشط عبر الحدود، وهو ما نفته الأخيرة، متوعّدةً بردٍ قاسٍ على انتهاك أراضيها.
لم تمضِ ساعات حتى تصاعد الموقف إلى تبادل للقصف عبر الخط الحدودي، حيث أعلنت باكستان مقتل 26 شخصًا في أراضيها جراء الضربات الهندية، فيما أفاد الجيش الهندي بسقوط 12 مدنيًا نتيجة القصف الباكستاني، وتوعّد بردٍ واسع النطاق.
من جانبها، أكدت الهند أن ضرباتها استهدفت "تسعة مواقع إرهابية" في كل من الأراضي الباكستانية وكشمير الخاضعة لإدارة باكستان، متعهدة بأنها لم تمس مواقع مدنية أو اقتصادية أو عسكرية تقليدية. إلا أن باكستان نفت ذلك بشدة، مشيرةً إلى تضرر مواقع مدنية ومساجد وسقوط ضحايا من الأطفال ضمن ثمانية قتلى و35 جريحًا.
وترجع قصة الصراع الهندي-الباكستاني أساسًا إلى إقليم كشمير، المتنازع عليه بين البلدين، أحد أكثر المواقع الساخنة حول العالم، فمنذ تقسيم الاستعمار البريطاني للهند عام 1947، نشأت دولتان على أسس دينية: الهند ذات الغالبية الهندوسية وباكستان ذات الغالبية المسلمة، ومنذ ذلك الحين خاضت الدولتان ثلاث حروب شاملة حول كشمير (1947، 1965، 1971)، بالإضافة إلى حرب كارغيل المحدودة عام 1999، وعدة اشتباكات كان آخرها عام 2019، قبل المواجهات الأخيرة، وبرغم عدم تصاعد أي من تلك المواجهات إلى حرب شاملة، إلا أن شرارة النزاع لم تنطفئ أبدًا.
ومع امتلاك البلدين قدرات نووية متطورة، فإن أي صراع تقليدي قد ينفلت بسرعة، مما يثير مخاوف حقيقية من كارثة نووية.
وفي لقاء جمعني العام الماضي في واشنطن بعدد من الخبراء الأمريكيين في شؤون الأمن الدولي، طُرحت على الطاولة سيناريوهات مرعبة لحرب نووية محتملة بين الهند وباكستان.
فحسب تقديرات وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (CIA)، فإن أي نزاع نووي، حتى لو كان محدودًا، بين البلدين يمكن أن يسفر عن مقتل ما بين 10 إلى 100 مليون شخص، معظمهم من المدنيين، في مدن مقاطعة البنجاب الواقعة على جانبي الحدود.
ويعود تفاوت أعداد الضحايا إلى مستوى ارتفاع التفجير النووي عن الأرض، فكلما اقترب من سطح الأرض، زادت كمية الغبار المشع المنتشر في الجو، مما يتسبب في تلوث إشعاعي واسع النطاق يؤدي إلى وفاة الآلاف خلال أسابيع، حتى لو نجا البعض من الانفجار المباشر. وتشير التقديرات العسكرية الأمريكية إلى أن الجيش الهندي، الذي يمتلك تفوقًا ملحوظًا في السلاح التقليدي (ويُعد الجيش الهندي رابع أقوى الجيوش عالميًا، ولديه 1,455,550 جنديًا في الخدمة العسكرية الفعلية، و2,229 طائرة حربية، ونحو 4,201 دبابة) يمكنه التقدم سريعًا داخل الأراضي الباكستانية، بل وقد يتمكن من السيطرة على مدينة لاهور، عبر اختراق المناطق الصحراوية السهلة جنوبي كشمير.
التفوق التقليدي الهندي سيضع الجيش الباكستاني في موقف صعب، (فيحتل الجيش الباكستاني المرتبة الـ12 عالميًا، ولديه 654,000 جندي في الخدمة العسكرية و2,627 دبابة و1,399 طائرة حربية)، لكنه في الغالب لن ينجح في صد أي هجوم هندي تقليدي، ولذلك فإن السيناريو المرجح حسب بعض المحللين، هو أن باكستان ستكون الطرف الأول الذي قد يستخدم السلاح النووي، وتحديدًا الأسلحة النووية التكتيكية، في محاولة لصد الهجوم الهندي الكاسح، إذ قد تلجأ إسلام آباد إلى استخدام أكثر من 20 رأسًا نوويًا تكتيكيًا لصد الهجوم الهندي.
ووفقًا لـ Federation of American Scientists، تُقدَّر الترسانة النووية للهند بما بين 160 إلى 170 رأسًا نوويًا، بينما تمتلك باكستان نحو 165 إلى 175 رأسًا نوويًا، ما يجعل كليهما ضمن أبرز القوى النووية خارج معاهدة عدم الانتشار (NPT).
ووفقًا لموقع Global Firepower المتخصص في الشؤون العسكرية، يأتي الجيش الهندي في المرتبة الرابعة عالميًا من حيث القوة الشاملة، بينما تحتل باكستان المرتبة الثانية عشرة. هذا التفوق الهندي في العتاد والتكنولوجيا يعني أن أي صراع تقليدي قد يُحسم لصالح نيودلهي، مما يجعل باكستان – بحسب تقديرات المحللين – أكثر ميلًا لاستخدام السلاح النووي كخيار استراتيجي دفاعي.
الخبير الأمريكي سايمون هندرسون، مراسل "فايننشال تايمز" السابق في باكستان، كشف خلال وقت سابق أن الجيش الباكستاني يواصل تطوير أسلحة نووية تكتيكية مصممة خصيصًا لإيقاف أي توغل أو هجوم هندي مفاجئ، مما يزيد من خطورة السيناريو في حال اندلاع مواجهة شاملة.
وكانت الهند قد أجرت أولى تجاربها النووية في 18 مايو 1974 تحت اسم "Smiling Buddha"، وفي مايو 1998 أجرت خمس تفجيرات نووية أخرى. وردت باكستان سريعًا بإجراء ست تجارب نووية في أواخر مايو من نفس العام في منطقة بلوشستان، لتدخل رسميًا النادي النووي.
ورغم أن كلا البلدين لم يُجرِ أي تجارب نووية علنية منذ ذلك الحين، إلا أن سباق التسلح مستمر منذ ذلك الحين، والمناوشات العسكرية تحدث بين الحين والآخر.
صحيح أن ما يُعرف بـ "توازن الرعب النووي الهش" قد حال حتى الآن دون انزلاق الهند وباكستان إلى مواجهة شاملة، إلا أن الملايين في شبه القارة الهندية لا يزالون يعيشون تحت رحمة ترسانتين نوويتين متأهبتين، وخطر دائم لحرب قد لا تُبقي ولا تذر. فمجرد خطأ واحد في التقدير، أو زلة في الحسابات الاستراتيجية، قد يشعل فتيل سيناريو أشبه بـ "هرمجدون"، ليفتح أبواب القيامة النووية ولكن هذه المرة من جنوب آسيا.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة