في ظل انشغال العواصم الدولية بملفات مشتعلة كأوكرانيا، وغزة، والبحر الأحمر، يتسلل تصعيد خطير وبصمت إلى قلب جنوب آسيا، حيث تقف الهند وباكستان — وهما دولتان نوويتان — على حافة مواجهة قد تنزلق بسهولة إلى صراع مفتوح.
وتعيد مشاهد تبادل الاتهامات وعمليات القصف المتبادل إلى الأذهان لحظات التوتر الأخطر التي شهدتها المنطقة منذ اختبار كارجيل أواخر تسعينيات القرن الماضي.
غير أن التصعيد الراهن يتجاوز البعد الثنائي التقليدي، ليتحول تدريجيًا إلى ساحة تجاذب دولي واضح بين القوى الكبرى؛ إذ تعزز الهند، الحليف الاستراتيجي الصاعد للولايات المتحدة، علاقاتها الاقتصادية والتكنولوجية مع الغرب، بينما تمضي باكستان في تعميق شراكتها الاستراتيجية مع الصين، وهو ما يُضفي على الأزمة بُعدًا جيوسياسيًا معقدًا، يجعل من جنوب آسيا مسرحًا محتملاً لتصفية الحسابات الدولية.
تتفاقم هذه التعقيدات على وقع مقتل عبد الرؤوف أزهر، القيادي في تنظيم "جيش محمد" المصنف إرهابيًا دوليًا، ما أثار تساؤلات جديدة حول استمرار علاقة باكستان بالتنظيمات المتشددة. إذ إن وجوده داخل الأراضي الباكستانية، رغم إدراجه على قوائم مجلس الأمن، يؤكد مجددًا الاتهامات الهندية والأمريكية لإسلام آباد بانتهاج سياسة مزدوجة تجاه الجماعات المسلحة.
ويأتي هذا الحادث في توقيت حرج بالنسبة لإسلام آباد، التي تسعى لتحسين سجلها أمام مجموعة العمل المالي (FATF) والحد من الضغوط الدولية المتزايدة.
مشهد إقليمي ودولي معقد وغياب مبادرات احتواء فاعلة
رغم أن المجتمع الدولي أعرب بشكل عام عن قلقه من التصعيد، فإن ردود الفعل لم تتجاوز إطار الدعوات العامة لضبط النفس. فقد أصدرت الأمم المتحدة، وواشنطن، وبكين، وموسكو، وباريس، والاتحاد الأوروبي بيانات تطالب بوقف التصعيد، محذرة من مخاطر انفلات الوضع بين قوتين نوويتين. ومع ذلك، افتقرت هذه الدعوات إلى ملامح مبادرة دبلوماسية عملية يمكنها احتواء الأزمة قبل أن تتفاقم.
على الجانب الآخر، برزت اصطفافات واضحة؛ إذ سارعت إسرائيل إلى إعلان دعمها لحق الهند في الدفاع عن أمنها القومي، بينما أبدت تركيا وأذربيجان تضامنًا كاملًا مع باكستان، معتبرتين أن التصعيد يعكس استفزازًا غير مبرر. ووسط هذه الانقسامات، عرضت الإمارات العربية المتحدة، التي سبق أن قامت بمبادرة وساطة عام 2021، استعدادها للاضطلاع بدور الوسيط مجددًا، كما أبدت إيران رغبتها في التهدئة. غير أن المشهد العربي العام بقي موزعًا بين بيانات قلق عامة ومواقف مترددة، دون بلورة مبادرة جماعية موحدة.
إن المرحلة الراهنة تتطلب بلورة مبادرة دبلوماسية متوازنة، تقوم على احترام سيادة الدول، وضمان الأمن الإقليمي، ومعالجة الجذور التاريخية للنزاع في كشمير، بما يضمن استقرار المنطقة ويحول دون تحولها إلى ساحة صراع بالوكالة بين القوى الدولية.
الموقف العربي: قلق دبلوماسي وغياب رؤية جماعية
أعرب عدد من الدول العربية، من بينها دولة الإمارات العربية المتحدة، ودولة قطر، وسلطنة عمان، والكويت، والجزائر، عن قلقها إزاء التصعيد القائم، داعيةً إلى ضبط النفس والعودة إلى المسار الدبلوماسي كخيار وحيد لتفادي مزيد من التوتر. وتحتفظ كل من المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات بعلاقات وثيقة ومتوازنة مع الجانبين الهندي والباكستاني، ما يمنحهما نظريًا فرصة للاضطلاع بدور الوساطة، لا سيما أن الإمارات سبق أن نجحت في أداء دور وساطة فعال بين الطرفين عام 2021، في حال تبلورت مبادرة دبلوماسية عربية موحدة.
وتأتي هذه المواقف في سياق ترابط اقتصادي عميق بين دول الخليج وكلٍّ من نيودلهي وإسلام آباد، سواء على صعيد العمالة، أو التبادل التجاري، أو المشاريع الاستثمارية الكبرى. ومن شأن أي تدهور في الوضع الأمني أن ينعكس سلبًا على هذه الشراكات الحيوية.
أما جمهورية مصر العربية، فعلى الرغم من متابعتها الدقيقة للتطورات الأمنية والاستراتيجية في المنطقة، فإنها لم تعلن حتى الآن عن موقف رسمي واضح حيال الأزمة.
تشابك إقليمي ودولي: واشنطن وبكين في خلفية المشهد
لا يمكن فصل التصعيد الهندي–الباكستاني عن السياق الأوسع للتنافس بين واشنطن وبكين في آسيا. فقد شهدت العلاقات الأمريكية–الهندية تطورًا لافتًا خلال السنوات الأخيرة، في ظل رغبة واشنطن في دعم نيودلهي كلاعب إقليمي موازن للصين، بل وكسوق بديلة للاستثمارات الغربية والشركات الكبرى الأمريكية.
في المقابل، ترتبط باكستان بعلاقات عسكرية واقتصادية متينة مع الصين، تشمل شراكات في مجالات البنية التحتية والطاقة والدفاع. وتعد الأزمة الراهنة ساحة اختبار محتملة لمدى قدرة كل طرف على حماية مصالحه الاستراتيجية، وسط مؤشرات متزايدة على احتمال تحول التصعيد إلى مواجهة غير مباشرة بين القوتين العظميين، على أرض جنوب آسيا، في ظل غياب ترتيبات إقليمية فاعلة لاحتواء التوتر.
المخاطر المستقبلية: تصعيد غير مسبوق منذ عقدين
يمثل استمرار هذا التصعيد الأخطر منذ نحو عقدين، لا سيما مع امتلاك الطرفين لترسانتين نوويتين، وسوابق تاريخية في الاشتباك الحدودي وغياب الثقة. ويخشى أن تؤدي خطوات غير محسوبة إلى انفجار نزاع إقليمي واسع النطاق، بآثار كارثية على الأمن والاستقرار في جنوب آسيا، وعلى منظومة الأمن الدولي برمتها.
كما أن تباين المواقف الدولية، وغياب آلية جماعية لاحتواء التصعيد — سواء على مستوى منظمة التعاون الإسلامي أو مجلس الأمن الدولي — يزيد من تعقيد الوضع، ويقوض فرص الحلول الدبلوماسية.
التداعيات الاستراتيجية المحتملة لاستمرار الصراع
أولًا: تصعيد سباق التسلح المتقدم تقنيًا
يسهم استمرار النزاع في تغذية سباق التسلح بين الجانبين، لا سيما في مجالات الدفاع الصاروخي، والطائرات المسيّرة، وتقنيات الذكاء الاصطناعي العسكري. وهذا التوجه لا يستنزف موارد البلدين فحسب، بل يزيد من هامش الخطأ الاستراتيجي، ويجعل من التقديرات الخاطئة سببًا محتملاً لاشتعال حرب واسعة النطاق.
ثانيًا: ضغوط اقتصادية إضافية على باكستان
يمثل الإنفاق الدفاعي عبئًا ثقيلًا على الاقتصاد الباكستاني المتعثر. فمع تصاعد الإنفاق العسكري، تتراجع قدرات الدولة على تمويل القطاعات الحيوية كالصحة والتعليم والبنية التحتية، ما يفاقم من الأزمة الاجتماعية والاقتصادية الداخلية، ويهدد بزعزعة الاستقرار في بلد يعاني أصلًا من أزمات مزمنة.
ثالثًا: احتمال تحول النزاع إلى ساحة اختبار عسكري صيني
نظرًا للعلاقات العسكرية الوثيقة بين بكين وإسلام آباد، تبرز مخاوف من أن تستغل الصين التصعيد كفرصة لاختبار منظوماتها الدفاعية الجديدة في ظروف قريبة من الميدان. وهو تطور إن تحقق، فقد يدفع أطرافًا دولية أخرى إلى التورط، ويعزز من حالة الاستقطاب الجيوسياسي العالمي.
رابعًا: تهديد توازنات منطقة الخليج واستقرارها
تحرص دول الخليج على الحفاظ على توازن العلاقات مع الهند وباكستان، خاصةً لما لهما من أدوار استراتيجية في الأمن الغذائي والطاقة والتجارة. إلا أن استمرار التصعيد قد يدفع بعض العواصم الخليجية إلى مراجعة مواقفها، أو حتى اتخاذ مسارات انحياز تدريجي، مما يهدد وحدة الموقف الخليجي، ويُربك مسارات التعاون الإقليمي.
خامسًا: التضليل الإعلامي في حرب غير تقليدية
تميّز التصعيد الحالي بتضخم غير مسبوق في حجم الأخبار الكاذبة والمعلومات المضللة التي تروّجها الأطراف المتنازعة. ويتجاوز الأمر حدود الدعاية التقليدية إلى مستوى متقدم من الحرب النفسية، التي تهدف إلى تعبئة الرأي العام الداخلي، وتضليل الرأي العام الدولي، وخلق صورة ذهنية تخدم أهدافًا سياسية أو عسكرية.
تضعف هذه الاستراتيجية الإعلامية إمكانيات فهم الواقع الميداني والسياسي بدقة، وتخلق مناخًا من الشك وانعدام الثقة، يعوق جهود التهدئة، ويصعّب على الدبلوماسية أداء مهامها بفاعلية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة