الاستمرار في مواجهة الإرهاب يستلزم المعرفة الدقيقة بالحالة الإرهابية.
هناك إجماع بين المحللين والمراقبين للحرب ضد الإرهاب على نقطتين: الأولى أن الظاهرة الإرهابية في جوهرها تعرضت لضربات موجعة خلال العام الماضي وما مضى في العام الحالي، وظهر ذلك في انحسارها أو انتقالها إلى مواقع دفاعية كما في ليبيا وسيناء وشمال نيجيريا، أو هزيمتها العسكرية كما جرى مع «دولة الخلافة» المزعومة التي أقامها «داعش»، وبشكل عام انحسرت العمليات الإرهابية خلال الشهور الأخيرة.
وفي الحقيقة فإن الإرهابيين فشلوا تماماً في الاستيلاء على السلطة في بلد عربي، وعندما أقاموا دولتهم المزعومة فإنها واجهت حلفاً دولياً أدى إلى سقوطها. والثانية أن كل ذلك لا يعني نهاية الإرهاب، فلا تزال المواجهة مستمرة في سيناء، وفي الصومال، وفي أفغانستان وباكستان.
وفي البلدان التي جرى فيها التعايش بين الدولة وجماعة الإخوان المسلمين، فإنها الآن أكثر الدول إنتاجاً للإرهابيين الذين يمارسون الإرهاب في الدول الأخرى مثلما هو الحال في تونس.
استمرار هذه الحالة من عدم اليقين حول مآل الإرهاب في الشرق الأوسط يجعل النيات الأمريكية الانسحاب من الحرب ضد الإرهاب ليس فقط غير مبررة، بل إن إعلان الانتصار على الإرهابيين لا يزال مبكراً للغاية، خصوصاً أنه حتى في سوريا والعراق الجيوب الإرهابية لا تزال واسعة، ولديها القدرة على التجنيد والحشد والتعبئة والحصول على التمويل اللازم لعملياتها على نطاق واسع.
استئصال الإرهاب لابد له من 3 شروط أساسية: تكامل الأدوات الأمنية والفكرية مع جهود الدولة في المجالات السياسية والاقتصادية؛ وأن تكون الدولة العربية أطول نفساً من التنظيمات الإرهابية وأكثر معرفة بها وبواقعها وتنظيمها وفكرها؛ والتعاون الكامل بين الدول العربية خصوصاً دول التحالف الرباعي.
مثل هذه الحالة الملتبسة ما بين بدايات الانتصار واستمرار المعارك تفرض على الدول العربية المراجعة المستمرة للواقع الاستراتيجي الذي يشهد تاريخه بأن الجماعات الإرهابية من أول الإخوان المسلمين حتى «داعش» كانت لديها دوماً القدرة على العودة وتجديد نفسها.
والمعركة الراهنة لم تكن أولى المعارك، والمرجح أنها لن تكون آخرها. فالجماعات الإرهابية المختلفة كانت لديها قدرات استراتيجية سمحت لها بالتجنيد، والتدريب، والتمويل، واستغلال نقاط الضعف، وتفادي نقاط القوة.
فوفق كل المعايير فإن توازن القوى بين الجماعات الإرهابية منفردة ومجتمعة من ناحية ودول الشرق الأوسط منفردة أو مجتمعة في ناحية أخرى ليست في صالح الأولى وبفارق كبير وهائل. ومع ذلك، ورغم فشلها الكامل في الاستيلاء على السلطة إلا لفترات قصيرة في العديد من بلدان الشرق الأوسط، فإنها مثّلت تهديداً مستمراً لدول المنطقة خلال العقود الماضية، وبكثافة كبيرة في أعقاب ثورات «الربيع العربي» المزعوم. ورجعت هذه القدرة على التجديد إلى قصور الاستراتيجيات التي جرى تطبيقها والتي دارت أحياناً حول المنافسة الفكرية والدينية مع الجماعات الإرهابية لإقناعهم وإقناع المواطنين بالطبيعة الدينية للدولة؛ وأحياناً جرى الاعتماد الكامل على البعد الأمني وحده، وفي الحالتين كانت المعلومات قاصرة وشحيحة؛ وأحياناً جرى الاكتفاء بتوصيف الإرهاب بكونه تعبيراً عن مؤامرة أجنبية، فباتت التكلفة الأمنية والفكرية مضاعفة دونما قدرة على ترجمة ذلك إلى استراتيجيات فاعلة.
وأخيراً فإن البيئة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في دول المنطقة كانت في أغلب الأحوال مواتية لنمو الإرهاب، فكان هناك الفراغ السياسي، والعجز الاقتصادي، والانقسام الاجتماعي، والتخلف الثقافي؛ وجميعها شكّلت بيئة مواتية للفكر الإرهابي والمنظمات الإرهابية.
إن الاستمرار في مواجهة الإرهاب يستلزم المعرفة الدقيقة بالحالة الإرهابية، فرغم أن الجماعات الإرهابية متنوعة التشكيل، وأحياناً تصارعت فيما بينها بشكل عنيف حول أساليب العمل السياسي، والأهداف الاستراتيجية والوسائل التكتيكية؛ فإنها تنقسم إلى نوعين من التنظيمات: جماعة الإخوان المسلمين ومن هم على شاكلتها، وتنظيم القاعدة ومن هم على شاكلته.
ورغم أن كل الجماعات الإرهابية تشكّل تهديداً للدول الشرق أوسطية والإسلامية عامة، فإنها تشكّل تهديداً للدول العربية بشكل خاص؛ ولعل جماعة الإخوان المسلمين هي الخطر الرئيسي والاستراتيجي طويل المدى الذي له أبعاد تتعلق بالسلطة السياسية والعلاقات الدولية والتقدم الاقتصادي والحضاري، وما عداها يمثل تهديدات ثانوية وحتى قد تكون مؤقتة. فهي الجماعة الأخطر والأقدم تجربة والأكثر عدداً وانتشاراً في 81 دولة من دول العالم، وهي التي وصلت أو شاركت أو تؤثر في السلطة في دول عربية أو إسلامية، كما أنها الجماعة الأكثر تنظيماً وتمويلاً وعنفاً على مدى العقود الماضية.
وتسهم الجماعة في الإرهاب من خلال 4 عمليات متكاملة في تأثيرها على المجتمعات العربية والإسلامية هي: القولبة أو تشكيل المجتمعات وحركتها اليومية استناداً إلى فكر الإخوان؛ والحضانة الأولى التي ينشأ فيها الإرهابي راضعاً فكر الخوارج وأساليبهم وتدريبهم؛ والتعبئة والتحريض على العنف والإرهاب؛ وأخيراً العنف والإرهاب المباشر ضد أجهزة الدولة الأمنية، والقدرات الاقتصادية للدولة، وإرهاب المدنيين.
كل ذلك يجعل حركة الإخوان المسلمين الهدف الرئيسي للحرب ضد الإرهاب؛ وبحكم طبيعتها فإن طبيعة الحرب تصير ذات بعد أمني عملياتي يستهدف الإرهابيين والمنظمات الإرهابية؛ ولكن ما لا يقل أهمية عن ذلك منع الآخرين من الحلول بدلاً منهم. المهمة هكذا أمنية وفكرية في آن واحد، وخلال السنوات القليلة الماضية فإن الإدراك بات متزايداً في الدول العربية المختلفة للحاجة إلى تجديد الفكر الديني واستنهاض فكر التجديد لدى المؤسسات الدينية المختلفة للمشاركة في هذه الحرب. ورغم ذلك فإنه لا توجد استراتيجية متكاملة وطويلة المدى لحصار الإرهاب والقضاء عليه بحيث يكون الشرق الأوسط منطقة خالية من الإرهاب.
إن استئصال الإرهاب لابد له من 3 شروط أساسية: تكامل الأدوات الأمنية والفكرية مع جهود الدولة في المجالات السياسية والاقتصادية؛ وأن تكون الدولة العربية أطول نفساً من التنظيمات الإرهابية وأكثر معرفة بها وبواقعها وتنظيمها وفكرها؛ والتعاون الكامل بين الدول العربية خصوصاً دول التحالف الرباعي الذي يضم السعودية ومصر والإمارات والبحرين، من خلال آلية مستمرة وفاعلة في وضع الاستراتيجيات والمواجهة العملية.
لقد سبق في هذا المقام التعرض إلى ضرورة إنشاء «المركز العربي لمكافحة الإرهاب» للتعامل مع هذه الظاهرة المعقدة والمركبة. صحيح أن عدداً من الدول العربية أقام مراكز بحثية في هذا الشأن، كما أن الأجهزة الأمنية المختلفة لديها أدوات بحثية واستخباراتية؛ ولكن كل ذلك لا يصب في النهاية داخل عقل واحد بحيث تتوافر له المعلومات، ويجري فيه التحليل، ومن خلال ذلك يكون رسم الاستراتيجيات الشاملة للمواجهة في جوانبها الأمنية والفكرية، حيث إن الحرب ضد الإرهاب لها طبيعة خاصة ترتب بدورها تشكيلات عسكرية خاصة، وكذلك مراكز فكرية وإعلامية لها خصوصيتها أيضاً.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة