الحكمة مخزونة في تجارب المجتمعات التقليدية، فمَن أراد أن يتعلم فليتأمل مجتمعه وتجاربه، وإبداعاته لمواجهة تحديات الزمان
الحكمة مخزونة في تجارب المجتمعات التقليدية، فمَن أراد أن يتعلم فليتأمل مجتمعه وتجاربه، وإبداعاته لمواجهة تحديات الزمان وتغيرات الواقع، حكمة المجتمع تنبع من تكرار التجربة، واستقرار الناس فيه على ممارسات معينة بعد تلك التجارب المتكررة، لأنهم لم يستقروا على تلك الممارسات إلا بعد محاولات متعددة من التجربة والخطأ، حتى وصلوا إلى الصواب.
الحكمة الحقيقية في عمق مجتمعاتنا، وما علينا إلا أن نعمل الفكر، ونمعن النظر، ونغوص في التأمل.. حينها سنصل إلى مكنونات الحكمة الحقيقية التي تفيدنا في فهم الواقع، والتعامل معه بصورة تحقق الطموحات، وتقربنا من الصلاح، وتبعدنا عن الفساد.
ومن حكمة مجتمعاتنا في الريف والبادية أنهم وصلوا إلى ابتكار عبقري يسمونه "البو"، للتعامل مع حيواناتهم إذا مات وليدها صغيراً فخسروا ثمرة الحمل الذي لا يحدث إلا مرة في العام، ويوشك أن يخسروا الحليب الذي هو مصدر رزق أساسي للفلاح والبدوي، في هذه الحالة انتهت حكمة الفلاح والبدوي إلى أن يتم سلخ جلد الوليد الصغير للناقة الذي يسمى عند البدوي "حواراً"، وللبقرة الذي يسمونه عجلا، ثم يتم ملء نفس جلد الوليد بالقش، ويضعونه بعيدا عن أمه، بحيث تراه ولا تلمسه، حينها تدرّ حليبها بسخاء وهي تنادي عليه، ولكنه لا يجيب، ولا يتحرك.. ولأنها الأم التي هي أصل الأمة، تعطي بلا حساب أو أنانية، ينزل حليبها، فيحلبها البدوي والفلاح، وبذلك يكون "البو" خدعة ذكية لاستدرار الحليب من البقر والنوق.
لعل أكثر الدول توظيفا لنظرية "البو" هي إيران التي خلقت لكل دولة عربية "بو" يناسبها، في صورة حركة معارضة أو حزب سياسي، ووضعت لشعبها "بو" كبيرا اسمه الشيطان الأكبر، ومن خلال هذا "البو" حلبت شعبها لأربعة عقود، و"البو" الكبير لم يمسه أحد
انتقلت نظرية "البو" من عالم الإبل والبقر إلى عالم السياسة، وصارت واحدة من أهم نظريات التعامل السياسي بين الدول، وداخل الدول، بحيث أصبح "البو" ضروريا للدول لكي تنفذ سياساتها داخليا وخارجياً، وأحيانا يكون "البو" ضروريا للحفاظ على استمرار النظام واستقراره وتحقيق أجندته الداخلية والخارجية.. ففي اليمن مثلا تم توظيف جماعة الحوثي والقاعدة قبل 2011 ضمن هذه النظرية، وكان نظام الرئيس الراحل بارعاً في ذلك بصورة تحافظ على وجود "البو" الحوثي، و"بو" القاعدة لتحقيق أهداف اقتصادية ودولية، وبنفس الطريقة كان يعمل نظام حافظ الأسد وابنه بشار مع إسرائيل، فقد حولاها إلى "بو" للشعب السوري للحفاظ على بقاء واستمرار النظام.
ولعل أكثر الدول توظيفا لنظرية "البو" هي إيران التي خلقت لكل دولة عربية "بو" يناسبها، في صورة حركة معارضة أو حزب سياسي، ووضعت لشعبها "بو" كبيرا اسمه الشيطان الأكبر، ومن خلال هذا "البو" حلبت شعبها لأربعة عقود، و"البو" الكبير لم يمسه أحد، بل على العكس، يتحاور معه النظام خارج إيران، ويتعاون معه في العراق، ويحلب الشعب به ليل نهار، النظرية نفسها سارت عليها جماعة الحوثي العميلة لإيران، وسار عليها ربيبها حزب الله في جنوب لبنان، لقد كانت أمريكا وإسرائيل أكبر نماذج "البو" السياسي التي تم حلب شعوب بكاملها لعقود تحت حجج المقاومة والممانعة.
"البو" السياسي مكون أساسي في السياسة الدولية، لقد تسامح الغرب مع الخميني رجل الدين المعمم، ومرر ثورته، لأنه يعرف أنها ستكون أعظم "بو" في التاريخ الحديث للعرب والمسلمين، هذا التسامح لم يحدث مع ثورة الدكتور محمد مصدق العلماني ربيب الغرب سنة 1953، وأفشلها، لأن ثورة مصدق لم تتوافر فيها مواصفات "البو"، النظرية نفسها تفسر لنا استمرار تنظيم القاعدة في أفغانستان لأكثر من ربع قرن، على الرغم من إمكانية القضاء عليه كما حدث مع حركات ثورية في كمبوديا وأمريكا اللاتينية، لأن القاعدة ووريثها داعش، وبوكو حرام، هي في أحد أبعادها نوع من "البو" السياسي اللازم لحلب العالم العربي والإسلامي واستدرار موارده، فلا يقبل عاقل أن تحالفاً من أربعين دولة لم يستطع القضاء على بضعة آلاف معتوه وأحمق في شرق سوريا وغرب العراق، وعندما توفرت الإرادة الروسية تم ذلك في فترة وجيزة، لأن روسيا لم تكن تريد هذا "البو" لتحقيق أهدافها.
كثير من الجمهوريات العربية التي تتراوح ما بين الديمقراطية وأضدادها توظف نظرية البو السياسي في إدارة الصراعات الداخلية على السلطة، فلكل مسؤول كبير أو قيادة حزبية "بو" يتم استخدامه لضمان الولاء والالتزام بالتوجهات، وعدم الخروج عن السياق العام لحركة النظام أو الحزب، ولعل الوضع في مصر منذ عصر السادات شهد توظيفاً لنظرية "البو" في معظم الأوقات، فقد تم توظيف الإخوان ومعهم السلفيون طبقاً لهذه النظرية لضمان عدم خروج التيارات القومية والليبرالية واليسارية عن الخط المرسوم.
نظرية "البو" السياسي مهمة في فهم كيف تعمل السياسة الدولية، وكيف تعمل الكثير من نظم الحكم في العالم العربي، وإذا أردنا التعمق في الفهم، والإصابة في التحليل، وتقديم رؤى واقعية فعلينا أن نبحث أولا عن "البو" السياسي، حينها سنعرف أن الكثير من التنظيمات والحركات تم التسامح مع وجودها ليس قناعة بهذا الوجود، وإنما لأنها تقوم بدور "البو" في مواجهة أطراف أخرى، وفي كثير من الأحيان تكون جميع الأطراف تعلب دور "البو"، كل في مواجهة الآخر، بحيث يقوم كل منهم بدور "البو" في مواجهة الطرف الآخر، الذي يتم توظيفه كذلك في دور "البو" لمواجهة "البو" الأول، بحيث قد يخلص الدارس لهذا الواقع إلى أننا نعيش في عالم من الأبواء.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة