على عكس جميع الأهداف التي أطلقها ترامب إبان حملته الانتخابية في العام قبل الماضي، اتسع العجز التجاري الأمريكي في شهر ديسمبر الماضي
في مفارقة كبرى وعلى عكس جميع الأهداف التي أطلقها الرئيس الأمريكي إبان حملته الانتخابية في العام قبل الماضي، اتسع العجز التجاري الأمريكي في شهر ديسمبر الماضي بنسبة 5.3% ليبلغ 53.1 مليار دولار، وهو أعلى مستوى شهري للعجز منذ شهر أكتوبر 2008، وخلال العام الأول من عمر إدارة ترامب اتسع العجز التجاري بمقدار 12.1% ليبلغ 566 مليار دولار في عام 2017، وهو أعلى مستوى لهذا العجز أيضا منذ عام 2008.
وربما الأكثر إثارة هو ارتفاع العجز التجاري الأمريكي مع الصين خلال العام الماضي بنسبة 8.1% ليسجل 375.2، وهو رقم قياسي لهذا العجز لم يسجل من قبل، وقد ترفع مثل هذه الأرقام من حمى الإدارة الأمريكية الهادفة إلى خفض العجز مع الشركاء التجاريين الرئيسيين الذين يحققون فائضا تجاريا معها، وعلى رأسهم الصين.
وتستهدف الولايات المتحدة العديد من الصادرات الصينية التي قد تفرض عليها رسوما جمركية أكثر ارتفاعا، فإلى جانب كل من ألواح الطاقة الشمسية المستوردة من الصين التي فرضت عليها رسوما أعلى بالفعل، وربما الصلب أيضا كما أشرنا في مقال الأسبوع الماضي، يأتي الألومنيوم ضمن القائمة المستهدفة من السلع، حيث تستورد الولايات المتحدة نحو 31% من مشترياتها العالمية من المعدن من الصين، وهناك تفكير في أن يتم فرض تعريفات جمركية عليها وفقا للمادة 232 الخاصة بالأمن القومي، ولدى الرئيس مهلة 90 يوما لكي يقرر ما يود فعله في هذا المعدن المهم الذي يدخل في صناعة الكثير من المنتجات من السيارات إلى علب المشروبات الغازية.
حسب تقديرات بعض الاقتصاديين الأمريكيين لو تحوّلت الصين من شركة بوينج الأمريكية لصناعة الطائرات إلى منافستها إير باص الأوروبية ستخسر الولايات المتحدة نحو 179 ألف وظيفة، وقد يكلف تقليص خدمات الأعمال الأمريكية نحو 85 ألف وظيفة أخرى
تمتلك الصين في الحقيقة أسلحتها التجارية هي الأخرى التي قد تكلف الولايات المتحدة خسائر في عكس الاتجاه الذي ترمي إليه سياسة ترامب التجارية من جذب فرص العمل إلى الولايات المتحدة، ففرض تعريفات جمركية انتقامية من قبل الصين- وهي ثالث أكبر وأسرع أسواق الصادرات الأمريكية نموا- سوف يشكل عقبة حقيقية لبعض الصادرات الأمريكية الأساسية للصين مثل الطائرات التجارية، وفول الصويا، واللحوم ومدى واسع نسبيا من الآلات والماكينات، وأجزاء محركات السيارات.
فبوسع الصين أن تتوقف عن شراء الطائرات الأمريكية، وأن تفرض حظرا على استيراد منتجات فول الصويا من الولايات المتحدة، وأن تتخلص من سندات الخزانة وغيرها من الأصول المالية الأمريكية، ومن الممكن أن تقلل الشركات الصينية من طلبها على خدمات الأعمال الأمريكية، كما تستطيع الحكومة أن تقنع الشركات بعدم شراء السلع الأمريكية.
فحسب تقديرات بعض الاقتصاديين الأمريكيين لو تحوّلت الصين من شركة بوينج الأمريكية لصناعة الطائرات إلى منافستها إير باص الأوروبية ستخسر الولايات المتحدة نحو 179 ألف وظيفة، وقد يكلف تقليص خدمات الأعمال الأمريكية نحو 85 ألف وظيفة أخرى، وربما تخسر مناطق إنتاج فول الصويا- خاصة في ولايتي ميسوري وميسسبي- نحو 10% من الوظائف المحلية إذا ما أوقفت الصين وارداتها، إذ باعت الولايات المتحدة ما قيمته 13.7 مليار دولار من فول الصويا للصين خلال العام الماضي، ومع الوضع في الاعتبار تضخم حجم المخزون العالمي، ومستوى إنتاج قياسي من المحصول في كل من البرازيل والأرجنتين فقد يتيح ذلك لبكين فرصة اللجوء لبائعين آخرين كنوع من الانتقام من أي إجراءات قد تمس الواردات الأمريكية منها.
وتعد واردات الصين من اللحوم الأمريكية من السلع الأخرى المهمة من حيث القيمة، إذ بلغت نحو 1.3 مليار دولار خلال العام الماضي، وكانت الصين قد استأنفت استيراد اللحوم من الولايات المتحدة خلال العام الماضي فقط بعد فترة من الحظر فرضته منذ عام 2003 بسبب تفشي مرض جنون البقر في الولايات المتحدة.
من الآثار السلبية أيضا لاندلاع حروب تجارية متصاعدة، مع إقامة كل طرف حواجز أمام وارداته من الأطراف الأخرى، تغذية الضغوط التضخمية في الولايات المتحدة، وربما تدفع هذه الضغوط بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي إلى رفع أسعار الفائدة إلى مستويات أعلى وبسرعة أكبر، مما كان ليفعل لو لم تفرض هذه الحواجز، وهذا إلى جانب تضاؤل آفاق النمو، وهو ما من شأنه أن يؤدي إلى تدهور أسواق الأسهم، وقد يؤدي تراجع فرص العمل ودخل الأسرة إلى خسارة كبيرة في الناتج المحلي الإجمالي.
فالضغوط التنافسية من الإنتاج الأجنبي الأقل تكلفة قد أدت، على سبيل المثال، إلى خفض متوسط تكلفة إقامة الألواح الشمسية في الولايات المتحدة بنحو 70% منذ عام 2010، والتعريفات الجمركية الجديدة التي تم فرضها سوف ترفع أسعار ألواح الطاقة الشمسية المستوردة، وهو ما يماثل في أثره رفع الضرائب على مستهلكي الطاقة، إلى جانب تراجع جهود زيادة الاعتماد على مصادر الطاقة غير الكربونية.
إذا ما وضعنا في الاعتبار أن دعاوى أمريكا عن تحجيم العجز التجاري لا تقتصر فقط على الصين، بل تمتد إلى شركائها التجاريين الرئيسيين مثل كندا والمكسيك التي تضمهما مع الولايات المتحدة منطقة التجارة الحرة لأمريكا الشمالية (النافتا)، حيث يهدد الرئيس الأمريكي بالانسحاب من الاتفاقية، إذا لم تستجب الدولتان للمطالب الأمريكية بإجراء تعديلات جوهرية عليها تعمل على تقليص العجز التجاري الأمريكي مع كل من البلدين، وهناك أيضا بلدان عدة في الاتحاد الأوروبي تستهدفها السياسة التجارية المعلنة للولايات المتحدة وتأتي على رأسها ألمانيا.
والأمر المهم حقيقة، أنه ليس هناك رابح في أي حروب تجارية، إذ الجميع خاسر فكما سيضار المواطن الأمريكي من فقد بعض فرص العمل ومن زيادة أسعار السلع، سيضار المواطنون في البلدان الأخرى كالصين وكندا وغيرهما للأسباب نفسها.
من هنا كان اللجوء للتحكيم الدولي في شكل آلية فض المنازعات التجارية التي تضمها منظمة التجارة العالمية هو الشكل الأكثر سلمية في تسوية هذه النزاعات وبدون أضرار كبيرة على الشركاء التجاريين، ولكن الواقع أن الولايات المتحدة هنا تعد حجر عثرة أيضا، فقد وصف الممثل التجاري الأمريكي روبرت ليثايزر آلية فض المنازعات بأنها آلية ضارة بالمصالح الأمريكية.
وبالفعل، فإن إدارة ترامب تعيق تعيين قضاة جدد أمام هيئات التحكيم التابعة لمنظمة التجارة العالمية، وإذا استمرت على هذه السياسة فإن آلية فض المنازعات بكاملها ربما تتعطل خلال أشهر معدودة، هذا في الوقت الذي عملت فيه هذه الآلية بشكل معقول في صالح الولايات المتحدة خلال الأعوام الماضية، فمنذ تأسيس منظمة التجارة العالمية في عام 1995، تقدمت الولايات المتحدة بنحو 123 منازعة تجارية من بين إجمالي 573 منازعة رفعت أمام الآلية، بما في ذلك 21 منازعة أمريكية ضد الصين، وعلى الرغم من أن الفصل في المنازعات عادة ما يقتضي مرور بعض الوقت والجهد، فإن الأحكام في أغلب هذه المنازعات جاءت لصالح الولايات المتحدة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة