عرفت النخبة القاهرية، والطبقة الأرستقراطية من ملاكي الأراضي في الفترة من ١٩٢٣ إلى ١٩٥٢ ثقافة سياسية.
كان مفهوم الحزب ودوره من أهم مقوماتها، فقد أدرك الجميع -في ذلك الوقت- أن الأحزاب هي الفاعل السياسي الأساسي، سواء على مستوى المشروع الوطني المتعلق بالتحرر والاستقلال، أو على مستوى إدارة الدولة ومؤسساتها، بل إن تلك الفترة عانت من فائض في التسييس الحزبي، الذي وصمها بحالة من عدم الاستقرار الحكومي؛ نظرًا لتعدد الانتخابات، وتقلبات التحالفات الحزبية، حتى إن بعض الحكومات كانت تستمر لأيام معدودة ويتم إسقاطها بسبب تغير التحالفات الحزبية.
ومنذ ١٩٥٢ تحولت الثقافة السياسية إلى حالة التعبئة الجماهيرية، وليس التنافس الحزبي، وإلى التنظيم السياسي الواحد الذي يتماهى مع الحكومة والدولة، وليس التعدد الحزبي المنافس للحكومة، والذي يسعى لأنْ يسقطها ويحل محلها، ثم جاءت مرحلة التعددية المقيدة بعد ١٩٧٤، ومعها دخلت مصر في عصر الأحزاب الافتراضية أو الورقية أو الكرتونية أو المستأنسة، ولم تتغير الثقافة السياسية بصورة تسمح بأن يستقر فيها مفهوم الحزب بمعناه السياسي المتعارف عليه في مختلف أنحاء العالم، وأصبحنا نعيش حالة شاملة من الخداع البصري، والتضليل المعلوماتي، وتصبح الأسماء لا تعني الظواهر التي تعبر عنها، بل قد تكون الظاهرة على العكس تماماً من المفهوم الذي يطلق عليها.
وقد كان يظن البعض أن المجتمع المصري بعد ٢٥ يناير ٢٠١١ سوف يفرز ظاهرة حزبية تتناسب مع عمق التغيرات وأطروحاتها التغييرية، والجيل الجديد الذي خرج لممارسة العمل السياسي، ولكن للأسف كانت الثقافة السياسية أقوى من كل أطروحات الجيل الجديد، ومن ثم تمخضت المرحلة عن ظاهرة حزبية هي أكثر بُعداً عن مفاهيم الأحزاب المتعارف عليها عالميًّا، واستطاعت الثقافة السياسية التي ترسخت في نصف القرن السابق أن تفسد كل مفاهيم التطور والتغيير، وأن تبتلعها وتعيد إنتاجها ضمن منظومتها القيمية المتوارثة من عصر الحزب الواحد والتعددية الحزبية المقيدة والأحزاب الورقية، وأصبحنا أمام حقائق وظواهر متعددة للحزب ليس من بينها الحزب السياسي المتعارف عليه في عالم اليوم.
فالواقع الثقافي في مصر يقول إن الحزب قد يعني النخبة؛ لأن الانتماء للحزب يعني تلقائيًّا التحاق الشخص بشريحة اجتماعية نافذة سياسيًّا قادرة على التواصل المباشر مع الدولة وأجهزتها، وفي الوقت نفسه قادرة على تحقيق أنواع مختلفة من المصالح من خلال علاقاتها الشخصية ونفوذها الحزبي.
والحزب قد يكون هو الفرد أو الشخص الذي أسسه ويقوده، وينطبق هذا المعنى على العديد من الأحزاب المصرية، فالحزب ملكية خاصة لرئيسه أو مؤسسه، الذي لا يقبل بأي حال من الأحوال الفصل بين ذاته وبين دوره، فهو الحزب والحزب هو، بل إن التصويت في الانتخابات لأحزاب معينة لا يتم طبقاً لبرامج هذه الأحزاب وأهدافها، وإنما عادة يتم طبقاً للأوزان النسبية لقياداتها وكوادرها والأشخاص المرشحين عنها، ولعل دراسة السير الشخصية لقادة الأحزاب الكبرى أو القومية يبين إلى أي حد هناك تماهٍ للحزب في الشخص، وإلى أي حد هناك تشخيص للعمل الحزبي في مختلف علاقاته، سواء مع الأجهزة الإدارية أو مع الشعب.
والحزب قد يكون طائفة دينية أو جهوية، سواء في علاقاته الداخلية أو الخارجية مع الدولة والمجتمع، فتكوين الأحزاب منذ نشأتها يستبطن مفهوم الطائفة وقيمها، بل إننا قد لا نبالغ إذا قلنا إن الأحزاب المصرية ما هي إلا طوائف عصرية، أو صورة عصرية للطائفة تحمل رموزها وقيمها وطريقة عملها، فقيادات الأحزاب لم يتم انتخابهم ولا يمكن تغييرهم، وأي رفض لهم أو نقد أو دعوة لتغييرهم يتم النظر إليه على أنه خروج عن الأعراف الحزبية/الطائفية. والكيفية التي يتم بها اتخاذ القرار داخل الأحزاب يتم بالمنهجية نفسها؛ من احترام للأوزان النسبية للأشخاص، واحترام للأكبر سنًّا، والأقدم في الحزب بغض النظر عن الفاعلية، والدور والقدرة على إفادة الحزب، كذلك فإن العلاقات بين الأحزاب تستبطن العلاقات الطائفية التي تقوم على أولوية الروابط الشخصية بين القادة على العلاقات السياسية بين الأحزاب، وعلى أولوية التلاقي الشخصي على الاتفاق في الأهداف والسياسات، وعلى أولوية المصالح الحالية على التفكير والتخطيط الاستراتيجي.
والحزب قد يكون جماعة ضغط، فطموح أكثر الأحزاب السياسية المصرية هو لعب دور مؤثر في النظام السياسي المصري مثل دور جماعات الضغط؛ لأن الوصول إلى السلطة من خلال الانتخابات لا تطمح فيه معظم الأحزاب لضعف وضآلة أوزانها في الشارع المصري، والحزب قد لا يكون سوى صحيفة.
تلك هي الصور الحقيقية لوجود الأحزاب السياسية في مصر، فعلى الرغم من أنها جميعاً تحمل في اسمها مفهوم الحزب، إلا أن حقيقتها وجوهر وجودها لا يتجاوز واحداً أو أكثر من هذه الصور التي أشرنا إليها، كلها عبارة عن تجمعات لا يملك أيٌّ منها الوجود الاجتماعي، أو الشرعية السياسية التي تمكنه من الوصول إلى السلطة وتشكيل الحكومة، أو تقديم الظهير السياسي للحكومة، ودعم سياساتها وحشد الجماهير خلفها، وهذا ما تحتاجه مصر في لحظتها التاريخية الحالية، لذلك لا بد من إعادة النظر بصورة كاملة في الأحزاب السياسية في مصر، ابتداء من القانون المنظم لها إلى الترخيص بوجودها.. "وللحديث بقية".
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة