ولعله مما يستوقف النظر تباين التسميات التى نطلقها إعلاميا على ذلك النمط من السلوك «الإرهابي» و«الانتحاري» و«الاستشهادي» و«الفدائي».
يختلف الفعل الإرهابى من المنظور السلوكى النفسى عن أفعال عديدة قد تماثله فى ظاهر السلوك، بل وقد تفوقه فى فداحة النتائج،
كما فى حالات العنف الوحشى الذى يقدم على ارتكابه الجنود النظاميون خلال الحروب أو غيرها من المواجهات العسكرية، ففى مثل تلك الحالات يقوم الجنود بما يقومون به كجزء من مهام وظيفتهم كمقاتلين محترفين لا يملكون الامتناع عن أداء تلك المهام دون التعرض للعقاب.
كذلك فإن السلوك الإرهابى الذى نحن بصدد تناوله يتسم بأنه سلوك مخطط فكريا تخطيطا يسبق الإقدام عليه، وبذلك فإن الفعل الإرهابى يختلف من هذا المنطلق السلوكى النفسى عن أفعال عديدة قد تماثله فى ظاهر السلوك، بل وقد لا تقل عنه فى فداحة النتائج، كما فى حالات الهبات والانتفاضات الجماهيرية، وكل أنواع العنف الجماهيرى التلقائى التى تتميز بداياتها على الأقل بالتلقائية والعفوية، وإن كان ذلك لا يستبعد بطبيعة الحال إمكانية تنظيمها و تخطيطها و لكن فى مرحلة تالية؛ أما السلوك الإرهابى فإنه سلوك يتم التخطيط له مسبقا، و لذلك فلعلنا لا نبالغ إذا ما استبعدنا إمكانية أن يتم فعل إرهابى وفقا لتعريفنا و يكون فرديا من ألفه إلى يائه، حتى ولو قام به فرد واحد. كذلك فإن السلوك الإرهابى الذى نحن بصدد تناوله يتسم بأنه يلحق أضرارا بالمدنيين، ونعنى بالمدنى فى هذا السياق «ذلك الفرد غير المدرب أو غير الراغب أو غير القادر على استخدام القوة دفاعًا أو هجومًا» .
كذلك فإن السلوك الإرهابى الذى نحن بصدد تناوله يتسم بكون إطاره التفسيرى من وجهة نظر صاحبه إطارا فكريا أو سياسيا أو عقائديا»، وبذلك فإن الفعل الإرهابى يختلف من هذا المنطلق السلوكى النفسى عن أفعال عديدة قد تماثله فى ظاهر السلوك، وقد لا تقل عنه أيضا فى فداحة النتائج، كما فى حالات الإرهاب التى تنطلق من أطر اقتصادية مادية كتلك التى تمارسها عصابات المافيا على سبيل المثال التى لا تنطلق من فكر متماسك يدفع بأعضائها إلى الموت فى سبيل الجماعة.
و لعله مما يستوقف النظر تباين التسميات التى نطلقها إعلاميا على ذلك النمط من السلوك «الإرهابي» و«الانتحاري» و«الاستشهادي» و«الفدائي». إن الجدل لا ينقطع حول التسمية المناسبة لمن يقدمون حياتهم فداء لأفكارهم، والأمر يتوقف فى النهاية على هويّة المتحدث وموقعه الفكريّ والاجتماعي. خاصة أن مصطلحات «الإرهابي» و«الانتحاري» تطلق عادة على «الآخر»، ونادرًا ما يصف بها الفرد نفسه أو جماعته0 والأمر على العكس بالنسبة لصفات «الفدائي»، و«الاستشهادي»، فإنها لا تطلق قط على من ينتمون لجماعة معادية0 إن تعبيريّ «الاستشهادى» و«الإرهابيّ» - على سبيل المثال - غالبًا ما يتكرر إطلاقهم على نفس الشخص فى نفس الواقعة، من مصدرين مختلفين، ويكمن الفارق الوحيد فى طبيعة جماعة الانتماء التى يعبر عنها صاحب التوصيف.
لقد عرفت الجماعات البشرية عبر التاريخ ظاهرة إقدام بعض أبنائها بمحض اختيارهم على التضحية بحياتهم فى سبيل أفكارهم. قد تكون تلك الأفكار فاسدة خرافية، وقد تكون ذروة فى الصلاح و الخير، وفى الحالين لا تعدم من يضحون بحياتهم فى سبيله. هناك من قدموا حياتهم فداء للميكادو الياباني، وهناك من أقدموا على التضحية بحياتهم فى سبيل النازية الهتلرية، من ناحية أخرى هناك من قدموا حياتهم فى سبيل الإسلام أو المسيحية، بل و حتى فى سبيل الصهيونية ، أو فداء لتحرير فلسطين .
ترى هل نستطيع بذلك أن نضع الجميع فى سلة واحدة؟ هل يمكن أن نساوى بين من أقدموا على تدمير برج التجارة فى 11 سبتمبر، وأولئك الذين يفجرون أنفسهم فى جنود الجيش الإسرائيلى المحتل، وأولئك اليابانيون الذين أقدموا على الانقضاض بطائراتهم المحملة بالمتفجرات على مواقع البحرية الأمريكية فى ميناء بيرل هاربور فى 7 ديسمبر 1941، وأولئك الذين يفجرون أنفسهم فى الحافلات الإسرائيلية، و هل يتساوى هؤلاء جميعا مع باروخ جولدشتاين الذى قتل المصلين الفلسطينيين فى الحرم الإبراهيمى بمدينة الخليل فى 25 فبراير 1994 مثلا؟ لقد أقدم الجميع على نفس الفعل، ولكن أين مكمن الفارق الفاصل بين «الانتحاري» و«الاستشهادى» و«الفدائى» و«الإرهابى» ؟
قد تكون مثل هذه التفرقة ميسورة لدى المشتغلين بالقانون الدولى مثلا حيث تدور التفرقة حول حق الشعوب المقهورة فى مقاومة القهر بكل أشكاله؛ وقد تكون ميسورة كذلك لدى أهل الاختصاص فى العلوم الدينية حيث تدور التفرقة بين الحلال والحرام، و بين ما يتفق مع الشريعة الإسلامية وما يتعارض معها، أما بالنسبة للمشتغل بالعلوم السلوكية كعلم النفس، فإن الأمر يختلف، حيث إن الفارق بين تلك التسميات إنما هو فارق فى الأطر العقائدية السياسية الفكرية التى يتبناها صاحب الفعل. و ليس من شك فى أهمية و جوهرية بل و حتى قداسة تلك التفرقة، ولكنها تظل رغم ذلك تفرقة فى المرجعيات الفكرية لا تتجاوزها بحال للملامح النفسية لصاحب الفعل
*نقلا عن الأهرام
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة